فضيلة سيدنا الشيخ أبو يوسف أمين طريف

شارك المقالة:
Share on facebook
Share on whatsapp
Share on twitter
Share on email

أعماله في تثبيت مكانة الطّائفة الدّرزيّة

منذ توليّة مهامّ الرّئاسة الرّوحيّة للطّائفة الدّرزيّة في تاريخ 21/03/1928، وضع سيادته برنامجًا إرشاديًّا قياديًّا سعى من خلاله إلى تثبيت مكانة الطّائفة في البلاد. في مطلع هذا البرنامج، قام سيادته برفقة كوكبة من أعلام الدين في البلاد آنذاك بجولات ضمّت جميع القرى الدّرزيّة، هدفوا من خلالها إلى اتّباع الوعظ والإرشاد وتنشيط حركة الدّين بين أبناء الطّائفة في القرى المختلفة. وقد صارت مع الوقت هذه الجولات عادةً ونهجًا سنويًّا، حيث كان أبناء الطّائفة ينتظرون قدوم سيادته معتبرين زيارته يومَ عيدٍ، موكلين إلى وفده حلّ جميع المشاكل الّتي كانت تواجه الأفراد أو الطّائفة ككلّ في جميع مناحي الحياة.

لم يخرج سيادته يومًا عن تعليمات السّيّد الأمير الّتي تربّى عليها في البيّاضة الشّريفة، إذ وضع خطّة قيادته بما يلائم شروحات السّيّد وتعاليمه، عاملًا على تحقيق تغييرات كثيرةٍ متفاوتة في الحياة الدّينيّة والاجتماعيّة، مقوّمًا مناهج العبادة والصّلاة، ومقوّمة أنواعًا منكرةً من السّلوك الّذي كان سائدًا في تلك الفترة.

وقد كانت الثّمرة الأولى لمجهود سيادته هي قراره الجريء في منع الأفراح والمخالفات في الأعراس، الّتي انقطعت بشكلٍ كلّيّ بعد تسلّمه الرّئاسة الرّوحيّة. ذلك بعد أن عبّر سيادته عن امتعاضه منها في أكثر من مجلس ومناسبة قائلًا أنّها "تهزّ بدنه"، وذلك لما لاحظ فيها من اختلاط محرّم بين النّساء والّرجال، وغيرها من المنكرات الّتي كانت سائدةً وقتها.

ولـمّا كان الامتحان هو السّبب في تبيين المزايا وتأكيد الفضل في السّجايا، فقد واجه سياداته امتحاناتٍ ومحنًا كثيرة، قابلها في طريقه نحو إعزاز أمر الطّائفة والجمع بين أبنائها على قلبٍ واحد.

واحدةٌ من أبرز هذه التّحدّيات حدثت عام 1936 عندما ثارت المنظّمات السّياسيّة في البلاد بعضًا على بعض البعض، فانعدم إثر ذلك الأمن وانتشر الفقر والدّمار. وقد استطاع سيادته أن يمنع تورّط الطّائفة في تلك النّزاعات السّياسيّة وأن يحافظ كرامة الطّائفة وعزّتها ببركة حكمته ودرايته.

كذلك، فقد واجه الدروز مشاكل عديدة وعانوا من تعدّياتٍ سافرة من قبل أوساط ادّعت الوطنيّة والقوميّة وتنكّرت لمواقف الطّائفة الدّرزيّة البطوليّة خلال مئات السّنين، في مناصرة الحقّ والدّين والحفاظ على الوطن والأرض والشّرف والاستقلال. ولـمّا وصلت الأنباء إلى زعماء الطّائفة في سوريا ولبنان، وعلى رأسهم عطوفة سلطان باشا الأطرش والأمير مجيد أرسلان ومشايخ العقل وشيوخ الدّين، قام سيادته بعقد مشاورات مع المشايخ الثّقات وأعيان الطّائفة في البلاد، مطلقًا قراره الشّجاع بالبقاء بتحريم مغادرة البيوت والبقاء في الأرض بكلّ ثمن، وبضرورة التّعاون مع أيّ حكم يضمن للطّائفة المحافظة على الأولاد والنّساء والشّيوخ والأطفال، بعيدًا عن خطر التّشرّد وخسائر الحرب والتّهجير. إضافةً إلى ذلك، قام سيادته بتوسيع رقعة التّواصل والاتّصالات مع أبناء الطّائفة وراء الحدود، ومع كافّة الطّوائف في البلاد، إيمانًا بضرورة تقبّل الآخر والتّرابط الاجتماعيّ.

خلال حملة زيارات واسعة، قام سيادته في سنوات الثّلاثين بزياراتٍ أخويّة إلى سوريا ولبنان، كما قام باستقبال الوفد الدّرزيّ الكبير الّذي زار البلاد عام 1940 برئاسة المرحوم الزّعيم عبد الغفّار باشا الأطرش، القائد زيد الأطرش، والقائد حمزة درويش ونخبة من الوجهاء أبطال الثّورة السّوريّة الكبرى، وذلك في أعقاب اغتيال المرحوم الشّيخ أبي صالح حسن خنيفس على يدّ الثوار.

ولعلّ أنّ أحد أبرز أعمال سيادته خلال فترة رئاسته الرّوحيّة، تمثّلت بهبّته عام 1940 ضدّ مطالبة الطّائفة الإسلاميّة من الانتداب البريطانيّ بملكيّة مقام نبيّ الله شعيب عليه السّلام في حطّين، موضحًّا أنّ المقام وملكيّته هو حقّ مطلق لأبناء الطّائفة الدّرزيّة أينما كانوا وأينما وجدوا. وقد كلّل الله مساعيه بالتّوفيق تاريخ 25/04/1964 بعد أن تمّ تثبيت ملكيّة مقام النّبي شعيب لصالح الطّائفة الدّرزيّة، وتمّ تسليم كوشان الطّابو لسيادته على يد رئيس دولة إسرائيل آنذاك "زلمان شازار".

خلال عام 1946 ترأس سيادته وفدًا درزيًّا عالي المستوى، ضمّ فضيلة المرحوم سيّدنا الشّيخ أبي حسين محمود فرج، المعلّم الفيلسوف كمال جنبلاط، وكوكبة من المشايخ والأعيان من البلاد ولبنان، حيث توجّهوا إلى إحلال الصّلح والتّوافق بعد الانقسام الكبير الّذي هزّ الجبل في سوريا، وهو ما يُعرف بالنّزاع بين الشّعبيّة والطّرشان. خلال هذه الزّيارة، تنقّل سيادته بين قرى الجبل، مجتمعًا مع زعماء الفريقين وفي مقدّمهم عطوفة القائد سلطان باشا الأطرش، الّذي قابل الوفد بكلّ التقدير والاحترام، وأعلن بشكلٍ مطلق عن قبوله لكلّ توصياته وتعليماته، تقديرًا لأعضاء الوفد ولفضيلة سيّدنا.

وأمّا في الاجتماعات الدّينيّة، فقد أزهرت آنذاك في عام 1947، بعد قدوم وفد كبير ونادر من مشايخ لبنان يرأسهُ فضيلة سيّدنا الشيخ أبو حسين محمود فرج، للمشاركة في مراسم الزّيارة الرّسميّة السّنويّة لمقام النّبي شعيب عليه السّلام في نيسان. على إثر ذلك، ردّ سيادته الزّيارة خلال نفس العام، وترأّس وفدًا من مشايخ البلاد خلال نفس العام للمشاركة في زيارة النّبي أيوب عليه السّلام في بلدة عيحا الّلبنانيّة خلال شهر آب. هناك التقى سيادته بكبار المشايخ من لبنان وسوريا، ليكون اللّقاء الأخير الّذي يجمع أقطاب الدين من سوريا ولبنان وبلادنا، قبل قيام الدّولة، لتصبح العلاقة بعدها عبر الأثير.

مع قيام دولة إسرائيل عام 1948، اجتازت الطّائفة الدّرزيّة بقيادة سيادته كافّة المشاكل والقلاقل، وظلّ أبناؤها بفضل حكمته سالمين ومكرّمين في بيوتهم، ليتمكّنوا كذلك من حماية عشرات الآلاف من إخوانهم المسيحيّين والمسلمين، الّذين نزحوا عن بيوتهم في أعقاب الحرب، وتقاسموا مع إخوانهم الدّروز المأكل والمشرب والملبس والمسكن، إلى أن تمكّن بعضهم من العودة إلى قراهم الأصليّة، ونزوح آخرين بقناعة إلى الدّول العربيّة.   

ومن النّوادر المثبتة خلال تلك الفترة، هو ما دوّنه السيّد أسد الأطرش في مذكّراته الخاصّة، ذاكرًا عن نفسه أنّه سافر في تاريخ  15/06/1948 من قرية يركا الى بلدة القريّا في جبل الدروز بصحبة المشايخ: الشيخ أمين طريف، والشيخ على الملحم، والشيخ جبر معدي. مع وصول الوفد إلى بلدة القريّا قال سيّدنا الشّيخ أمين مخاطبًا سلطان باشا: "يا باشا الجمعيّة العربيّة تقول إنّ قرى الدّروز ملاصقة لقرى اليهود، وإنّ اليهود سيعملون على إبادة أصحابها، ولذلك يتوجّب على الدروز إخلاء القرى والنّزوح الى سوريا وإلى جماعتهم في الجبل، حيث أنّ الجمعيّة العربيّة تتعهّد لنا بإرجاعنا إلى قرانا بعد خمسين يومًا فقط، وهي المدّة الكافية لطرد كلّ اليهود من فلسطين، فماذا تشير علينا يا باشا؟" فأجاب الباشا سيادته قائلاً: "إيّاكم ثم إيّاكم ترك قراكم، لأن غيركم باع واشترى، وأمّا أنتم فما بعتم ولا اشتريتم. عليكم بالصّمود في أرضكم والمحافظة على أرضكم وعرضكم، وإذا ما نزحتم إلينا فلن نقبلكم أبدًا". وما كان من سيادته إلّا أنّه استحسن هذا الاقتراح، ونسبه إلى الشّجاعة والحميّة الدّينيّة وقرّر العمل به على أرض الواقع.

خلال سنوات الحكم الانتقالي، أشرف سيّدنا الشّيخ أمين برفقة الزّعامة الدّرزيّة الحكيمة آنذاك على عمليّة انتقال الحكم من أيدي الانتداب البريطانّي إلى دولة إسرائيل. وقد دأب سيادته على بقاء الدّروز في البلاد إلى جانب مئات الآلاف من المواطنين المسلمين والمسيحيين، ثابتين على محبّة الأرض والتّمسّك بها خيرَ تمسّك.

بعد أن تمّ الإعلان عن استقلال دولة إسرائيل، نال فضيلة سيّدنا الشيخ أمين ثقة وتأييد القيادة الإسرائيلية وتقدريها، لتبدأ من بعدها عمليّة بلورة القيادة الدّينيّة والسّياسيّة والإداريّة للطّائفة الدّرزيّة. جرّاء هذه الإصلاحات الّتي رافقها إنعاشًا اقتصاديًّا شعرت فيه القرى الدّرزيّة، باشر سيادته بترميم وبناء المقامات المقدّسة للطّائفة في البلاد، وقد كان أوّلها مقام سيّدنا النّبي شعيب عليه الّسلام في حطين، مقام سيّدنا الخضر عليه السّلام في كفر ياسيف، ومقام سيّدنا سبلان عليه السّلام في حرفيش.

هذا، وقد استجابت حكومة إسرائيل لمطالب سيادته في تاريخ 1957/4/15، معلنةً عن الطّائفة الدّرزيّة كطائفةٍ مستقلّة ذات كيان ذاتيّ مستقلّ، على غرار ما هو عليه الحال في سوريا ولبنان. نتيجةٍ لذلك، أقيم مجلس دينيّ درزيّ أعلى، تمّ تعيين سيداته رئيسًا له، إلى جانب العضوين المرحومين الشّيخ أبي محمّد كمال معدّي من يركا، والشّيخ أبي كمال أحمد خير من أبو سنان.

خلال المساعي الكبيرة لتنظيم أحوال الطّائفة في شتّى القطاعات، تبنّى سيادته عام 1961 قانون الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة في لبنان، لتصادق الكنيست بعدها خلال عام 1962 على سنّ قانون المحاكم الدّينيّة الدّرزيّة وفقًا لمطالب سيادته ويتمّ الإعلان عن الطّائفة الدّرزيّة كطائفةٍ دينيّة مستقلّة كباقي الطّوائف في إسرائيل.

في قضيّة المحاكم الدّينيّة المذهبيّة، تمّ في عام 1963 تشكيل محكمة الاستئناف الدّرزيّة الّتي جلس بها سيادته رئيسًا، إلى جانب سماحة القاضيين أعضاء الرّئاسة الرّوحية المرحوم الشّيخ أحمد خير والمرحوم الشّيخ كمال معدي. خلال نفس العام، شكّلت محكمة مذهبيّة بدائيّة، كان قضاتها المرحوم الشّيخ سلمان طريف من جولس، المرحوم الشّيخ حسين عليّان من شفاعمرو، والمرحوم الشيخ لبيب أبو ركن من عسفيا.

ومن أعماله الكثيرة الّتي يطول بها الشّرح والبيان، قيامه بالمطالبة بشقّ شارع موصل بين القرى كفرسميع، كسرى ويانوح، وذلك إثر وفاة توفي عددٍ من الأطفال جرّاء مرض الحصبة، وتعذّر إمكانيّة امكانية نقلهم بالسّيّارات الى المشافي لتلقّي العلاج، حيث تمّ تنفيذ مطالبه خلال عام 1964 في هذا الصّدد بصورةٍ سريعة لم يتوقعها أحد، على الرّغم من العوائق البيروقراطيّة والهندسيّة.

في سنة 1969، عقد سيادته اتّفاقًا مع المستشفى الحكوميّ "ملبن" في مدينة نهاريا، وذلك لتخصيص جناح ولادة خاص للنّساء الدّرزيّات، لا يعمل به سوى الطّبيبات الإناث.

في سنة 1977 أبرم سيادته اتّفاقًا بين الرّئاسة الرّوحيّة ولجنة المعارف والثّقافة للدّروز في الحكومة الإسرائيليّة، لتدريس التّراث الدّرزيّ في المدارس الدّرزية، خوفًا من ضياع الهويّة وإيمانًا بأهميّة تعليم هذه الـمُثل الأخلاقيّة للجيل الجديد.

على الرّغم من انشغالات ومسؤوليّات الطّائفة الكثيرة، والأوضاع السّياسيّة غير العاديّة، لم ينقطع سيادته يومًا عن بذل الغالي والنّفيس من أجل الحفاظ على التّواصل مع الإخوة الدّروز في لبنان وسوريّا، فكان سيادته يترّقب أخبارهم عن كثب، مسرورًا بسماع أخبارهم المطمئنة، وباكيًا متأثّرًا متحسّرًا عند تعرّضهم لأي مشكلةٍ كانت.

لم يدُم هذا الانقطاع الجسمانيّ طويلًا، حيث بادر سيادته إلى تجديد الزّيارات إلى لبنان خلال عام 1982. نذكر من هذه الزيارات ما كان في تاريخ 23/07/1982 إلى منطقة الشّوف والغرب الّلبناني، وفي تاريخ 15/10/1982 إلى خلوات البيّاضة الزّاهرة بعد أربعة وثلاثين عامًا على الانقطاع.

تقديرًا لشخص سيادته، واعترافًا بحكمته وجدارته في القيادة الحكيمة، ودعوته الدّائمة إلى التآلف والسّلام، تسلّم سيادته في تاريخ في 15/04/1990 "جائزة إسرائيل" الّتي تعتبر وسام التّقدير الأكبر في الدّولة، راصدًا ما تسلّمه من قيمة الجائرة الماليّة إلى وقف مقام نبيّ الله شعيب عليه السّلام.

ولـمّا كانت البيّاضة الزّاهرة لا تزال تحيا في قلبه وذاكرته، قام سيادته في عام 1990 بافتتاح خلوةٍ واسعة الأرجاء في البيّاضة الزّاهرة أطلق عليها اسم "خلوة الصّفديّة"، وذلك تشجيعًا للشّباب المتديّنين من إسرائيل على زيارتها والمكوث فيها خلال فترة دراستهم الرّوحيّة وحفظهم لكتاب الله العزيز.