فضيلة سيدنا الشيخ أبو يوسف أمين طريف

شارك المقالة:
Share on facebook
Share on whatsapp
Share on twitter
Share on email

نسبه

توطئة

تعتبر عائلة طريف الّتي يستوطن أفرادها قرية جولس منذ مئات السّنين، واحدةً من مصافّ العائلات الدّرزية العريقة والقديمة في البلاد، إذ أوكل لها منذ حوالي أكثر من ثلاثة قرون تمثيل الطّائفة الدّرزيّة وقيادتها، دينيًّا واجتماعيًّا، مسطّرةً قصّةً قياديّة ناجحة ولامعة، في تحويل الأقلّيّة الدّرزيّة في البلاد إلى طائفةٍ معترف بها، وذات مكان مرموق ورفيع بين المجتمعات المختلفة في البلاد وحول العالم.

طريف الفزاري – معركة الأقحوانه والاستيطان في حاصبيا

تعود الجذور الأولى لعائلة طريف إلى المقاتل التّوحيديّ الشّهير "طريف الفزاري"، وهو واحدٌ من الجنود البواسل الّذي تطرّق تاريخ الدّعوة الدّرزيّة لمواقفه الشّجاعة ولانضمامه للقتال في صفوف جيش الموحّدين خلال معركة الأقحوانة.

وللتّذكير، وقعت معركة الأقحوانة الشّهيرة في اليوم الثّاني عشر من شهر آذار عام 1029 في سهل الأقحوانة جنوبي بحيرة طبريا، بين قوّات الموّحدين الدّروز تحت قيادة أنوشتكين الدّزبري والأمير رافع بن أبي اللّيل، وبين أعدائهم من جيوش المرتدّين والكفّار الّذين سعوا من أجل قتل الموحّدين، تحت قيادة صالح بن مرداس، حسّان بن مفرّج وسنان بن عليّان. خلال المعركة، استبسل جيش الموحّدين مظهرًا شجاعةً فائقةً في الدّفاع عن أهل الدّعوة، وكان من بينهم كما أسلفنا الذّكر المقاتل طريف الفزاري، الّذي كُتب له الحظّ بأن يطعن أحد أكبر أعداء الموحّدين آنذاك، صالح بن مرداس، ويرديه قتيلًا. بهذا العمل البطوليّ، رجحت كفّة الموحّدين في ساحة القتال، محقّقين انتصارًا عسكريًّا كبيرًا، ضمن لهم البقاء في منطقة حلب، وادي التيّم وشماليّ فلسطين، منذ بداية القرن الحادي عشر وحتّى يومنا هذا.

يعود نسب "طريف الفزاري" إلى بني فزارة، الّذي ورد عنهم في كتاب "معجم قبائل مصر" أنّهم: قبيلة من غطفان من قيس العدنانيّة، وكانت الزّعامة والرئاسة فيهم. وقد اختار الملك النّعمان بن المنذر- ملك الحيرة- بني بدر بن فزارة من أحد أشرف أربعة بيوت للملك في العرب. شاركوا في حرب داحس والغبراء مع أبناء عمّهم بني عبس. هاجر قسم من فزارة من الجزيرة العربيّة إلى مصر، وسكنوا قلقشندة وبرزوا فيها، وظهر منهم فيما بعد المؤرّخ الموسوعيّ الكبير القلقشنديّ وهو أبو العباس شهاب الدّين أحمد بن علي بن أحمد القلقشندي ثم الفزاري نسبة إلى قبيلة فزارة الغطفانيّة العربيّة (756 ه / 1355م – 821 ه /1418م)، صاحب موسوعة " صبح الأعشى في صناعة الإنشاء” وفيها سجّل لأنساب العرب وتاريخهم. واستقر بنو فزارة في مصر، وكانوا ذوي مكانة قويّة مرموقة في مجالات عدّة. وفي بداية القرن الحادي عشر، كانوا من أنصار الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله، ويعتقد أن الكثيرين منهم ساروا تحت لواء الدّعوة التّوحيديّة ودعموها. ويُعتقد أن المحارب طريف الّذي كان أمير قبيلة فزارة، كان من أوائل من استجاب لدعوة التّوحيد وأصبح ركنًا من أركانها، على مستوى المحاربين الّذين نذروا أنفسهم لترسيخ جذور التّوحيد في المنطقة، حيث شارك كما ذُكر سابقًا في معركة الأقحوانة واستبسل فيها، ليستقرّ بعدها في منطقة حاصبيّا، الّتي كانت حاضنةً للدّعوة التّوحيديّة، كغيره من مئات المحاربين الموحّدين الّذين اعتنقوا دعوة التّوحيد في مصر، وانتقلوا بعد غياب الحاكم بأمر الله إلى منطقة وادي التّيم، حيث ازدهرت فيها دعوة التّوحيد وكانت قويّةً متمّكنة. وقد استمرّ طريف الفزاري في خدمة الأمير رافع بن أبي الليل والوقوف إلى جانبه، وكان الأمير ينتدبه للقيام بمهمّات خاصّة في أكثر من منطقة، معتمدًا عليه أشدّ الاعتماد. ذلك لأنّه كان من القلّة الّذين لم ينضمّوا إلى دعوة التوحيد طمعًا بمنفعة وغاية، وإنّما محبّة في التّوحيد وإيمانًا في العقيدة، مكرّسًا كلّ جهوده ووقته لترسيخ الدّعوة في وادي التيّم وجبال الشوف وشمالي فلسطين.

 وقد ذكر التّاريخ عن طريف أنّه بنى بيتًا في بلدة حاصبيّا، واختار الزّواج من امرأة صالحةٍ من سكّان القرية، أنجب منها أولادًا وكوّن معها أسرة، معلمًا الأمير رافع بهذا القرار، ليعيّنه الأخير مندوبًا له في منطقة حاصبيّا، ويوكل إليه صلاحيّات دعويّة واجتماعيّة. هذا، ولا زالت حتّى يومنا هذا في المنطقة الشّرقيّة الجنوبيّة من مدينة حاصبيّا، مقبرة قديمة تضمّ رفات أبناء عائلة طريف الّذين سكنوا حاصبيا، وفيها شجرةٌ يانعة ممتدّة نبتت منذ مئات السّنين ضاربةً بجذورها حتّى أعماق الأرض.

لم يكن الشّيخ طريف وحده من برز خلال استيطان العائلة في منطقة حاصبيّا مدّة سبعة قرون، بل قام بين أفرادها عددٌ كبير من رجال الدّين الأتقياء، ومن القادة العسكريّين والوجهاء، الّذين تركوا بصماتٍ كبيرة في تاريخ الدّعوة التّوحيديّة والمجتمع التّوحيديّ في المنطقة. نذكر منهم:

  • الشّيخ علي سليمان طريف الّذي برز نجمه في الدّين والتّقوى خلال القرن الثّاني عشر.
  • الشيّخ محمّد سلمان طريف الّذي كان من أقطاب رجال الدّين الدّروز في تلك الضّواحي، وتوفّي عام 1258م. 
  • الشّيخ سليم حسن طريف الّذي برز نجمه الرّوحانيّ خلال القرن الرّابع عشر.
  • الشّيخ مهنّا محمّد طريف المتوفّى عام 1312م.
  • الشّيخ صالح خير طريف الّذي توفّي في القرن الرّابع عشر.
  • الشّيخ حمزة حسن طريف الّذي توفّي في بداية القرن الخامس عشر.
  • الشّيخ أيّوب حسين طريف المتوفّى في القرن الخامس عشر، وغيره وغيره من الشّخصيّات.

فضيلة الشّيخ حسن طريف – الهجرة إلى قرية جولس

ربطت أفراد عائلة طريف أواصر الصّداقة والمودّة مع أفراد عائلة ماضي من قرية العباديّة في لبنان. ذلك، بسبب قرب سُكنى عائلة طريف لهم في النّاحية الجنوبيّة الشّرقيّة من مدينة حاصبيّا. وقد كان أوّل من بادر إلى بناء هذه الصّداقة، الشّيخ علي سليمان طريف المتوفّى في أواخر القرن الثّاني عشر ميلاديّ، حيث كثرت في وقته الزّيارات بين العائلتين، ووقوف أحداهما إلى جانب الأخرى في السّرّاء والضّراء.

ومن الثّابت تاريخيًّا، أنّ أوّل من استوطن في قرية جولس خلال القرن الحادي عشر ميلاديّ، أي بعد الدّعوة التّوحيديّة، كانوا أفرادًا من عائلة ماضي، حيث سكنوا هناك بنايةً تعود إلى العهد الصليبي، ولا تزال قائمة حتّى يومنا هذا. بالإضافة إلى اعتمادهم على الزّراعة وفلاحة الأرض كمصدر معيشة رئيسيّ لهم.

من خلال الزّيارات الّتي قام بها أفراد عائلة ماضي من العباديّة لأقربائهم في جولس، اعتادوا الضيافة لدى أصدقائهم من عائلة طريف في حاصبيّا، حيث أقاموا عندهم للاستراحة من مشاقّ السفر ذهابًا وإيابًا، الأمر الّذي ساهم في توطيد علاقة الصّداقة أكثر وأكثر.

خلال إحدى الزّيارات الّتي حلّ بها أفراد عائلة ماضي في بيوت عائلة طريف في حاصبيّا، نجحوا في إقناع الشّيخ حسن طريف، بعد إلحاح طويل وكثير، في مرافقتهم الى جولس لزيارة المنطقة والتّعرّف على أقربائهم هناك. خلال هذه الزّيارة، استوطن حبّ جولس قلب الشّيخ حسن الّذي أعجبه موقعها وتضاريسها، ومال قلبه إلى الاستيطان بين أحضان هذه القرية الوادعة.

خلال عام 1584 ميلادي، ونتيجة قطع بعض اللّصوص لطريق قافلةٍ عثمانيّة كانت في طريقها إلى إسطنبول، استغلّ العثمانيّون ذلك، وفرضوا حصارًا خانقًا على الدّروز في لبنان، معلنين عليهم معركةً راح حصيلتها المئات من مشايخ الدّروز، ممّا دفع بالعديد من أبناء الطّائفة إلى الهجرة نحو بلاد حوران وصفد.

من بين هؤلاء، كان الشّيخ حسن طريف، الّذي قرّر أن يهاجر إلى جولس، برفقة زوجته زهرة، وأولاده سيّدنا الشّيخ أبو صالح سلمان طريف الكاتب والشّيخ العابد خير طريف. فور وصلوهم إلى قرية جولس، أستقبل الشّيخ حسن وعائلته أحسن التّرحاب على يد إخوانهم من عائلة ماضي، في حين لم يتجاوز عدد أفراد العائلتين عشرين نفرًا، وعدد سكّان جولس من الدّروز خمسين نفرًا. خلال سنوات المعيشة المشتركة، عملت العائلتان في الزّراعة وتربية المواشي، لينجح الشّيخ حسن بعد ذلك بجدّه واجتهاده بشراء بعض الأراضي الزّراعيّة، وتأمين سبل العيش الكريم له ولأبناء عائلته. وقد اتّخذت عائلة طريف منذ سكنها في جولس مسلكًا دينيًّا واضحًا، وبرز من بين أفرادها شيوخٌ اشتهروا بالتبحّر في العلوم الدّينيّة التّوحيديّة، كان منهم سيّدنا الشّيخ أبو صالح سلمان طريف الملقّب بالكاتب (1569- 1647).

سيّدنا الشيخ أبو صالح سلمان طريف الكاتب

من المتعارف عليه أنّ سيّدنا الشّيخ أبو صالح سلمان طريف الكاتب هو واحدٌ من كبار أئمّة بلادنا خلال سائر العصور، إذ فاق اهل زمانه معرفةً وعلمًا، وتميّز بين شيوخه وأقرانه فطنةً وفهمًا، تاركًا للطّائفة مؤلّفًا دينيًّا أدبيًّا راقيًا يُعرف باسم "المجراويّة"، وهي عبارة عن ملحمة دينيّة بطوليّة في وصفه ليوم القيامة، لا تزال تُتلى في سائر الاجتماعات الدّينيّة حتّى يومنا هذا بعد سنوات طويلة على تأليفها.

كانت ولادة هذا الشّيخ الكريم في بلدة حاصبيّا اللّبنانيّة عام 1569م. وقد نشأ الشّيخ سلمان في بيئةٍ دينيّة توحيديّة لوالديه اللّذين علّماه أسس الدّين منذ مطلع شبابه. حيث يُذكر أنّ أمّه كانت تعوّده الجلوس متربّعًا، وتلاوة البسملة قبل الجلوس إلى الطّعام أو الانطلاق في أي عملٍ كان. وأمّا والده فقد دأب على أخذه معه إلى مجالس الذّكر والعلم، ليلين قلبه بذكر الخير، ويستمع إلى العلم من ألسن المشايخ والإخوان. في سنّ السّادسة من ربيع عمره، قرّر والده بعث الشّيخ سلمان إلى الدّراسة عند الشّيخ سليمان غرز الدّين، الّذي اشتهر بين النّاس بتضّلعه في اللّغة العربيّة، قواعد وأدبًا. لم يمضِ زمان طويل على انضمام الشّيخ سلمان إلى صفوف الدّراسة، حتّى برز بين الطّلّاب نجيبًا فطنًا، وظهرت عليه سمات الفطنة وتولّعه في القراءة والمطالعة والتّعلّم، حتّى صار المفضّل عند معلّمه الذي توسّم فيه الخير، وشجّعه على حفظ كتاب الله حرفًا حرفًا. امتثالًا لأمر معلّمه، انطلق الشّيخ سلمان في مهمّة الحفظ، ليتلقّى بعد مدّة خبر وفاة معلّمه الشّيخ سليمان غرز الدّين فيحزن عليه حزنًا صادقًا، ويقرّر من بعده أن يستمرّ على نهج معلّمه، مستمرًّا في حفظ كتاب الله، ودراسة قواعد اللّغة العربيّة وأصولها دون معلّم، مستعينًا بإكثار المطالعة في الكتب الّتي كانت متوفّرة في عهده، ويعلّمها لأخيه الأصغر خير طمعًا في الأجر عند الله.

في عام 1584م، وعندما بلغ الشّيخ سلمان الخامسة عشرة من عمره انتقل مع عائلته للسّكن في قرية جولس. وقد كان أوّل ما لفت نظر الشّيخ سلمان حالَ وصوله، انعدام وجود خلوة في القرية، واعتياد النّاس على ممارسة الصّلوات داخل البيوت.

لم يستطع هذا الشّيخ الشّاب أن يقف مكتوف الأيدي حيال هذا الأمر، فقام بين النّاس يحثّهم بعلمه على ضرورة تشييد خلوةٍ للعبادة، تعين النّاس على اكتساب العلم والتّقرّب من الله تعالى. إلى جانب ذلك، فقد شيّد الشّيخ سلمان بمساعدة أبيه بيتًا بثلاث قناطر، وتمّ عقد قرانه على ابنة عمّه سارة من حاصبيا، وسط حضور وفدٍ كبير من عائلتي طريف وماضي من منطقتي حاصبيا والعبّادية، في حين اجتمع في بيته وقرّر استحقاق الشّاب سلمان للقب "شيخ" اعترافًا بدينه وتقواه وفضله.

لم ينقطع الشّيخ سلمان عن محبّة العلم والتّعمّق في علوم الدّين، إذ اطّلع على كافّة المخطوطات النّفيسة القديمة، وتبحّر في أصناف الشّروحات والتّعاليم، ليصبح خلال سنواتٍ حجّةً وعلّامةً رفيع المستوى، مصدرًا من تحت يديه الكريمتين مؤلّفه المشهور "المجراويّة"، ذا القيمة الرّوحيّة الكبيرة بين أوساط أهل الدّين.

خلال تلك الحقبة، تواترت الأخبار إلى آذان الشّيخ سلمان حول علّامة تقيّ عامل وإمامٍ توحيديّ كبير، يسكن في منطقة حاصبيّا وهو سيّدنا الشّيخ الفاضل محمّد أبو هلال رضي الله عنه، الملقّب بين النّاس بالشّيخ الفاضل. في قلب الشّيخ سلمان، تحرّك الشّوق لمقابلة هذا الوليّ الجليل، والاجتماع به لأخذ العلم والمعرفة عن شخصه الكريم، فقام الشّيخ بالسّفر إلى حاصبيّا للاجتماع به، حاملًا في جيبه نسخةً من مؤلّفه "المجراويّة" الّتي قام بنسخها بخطّ يده الأنيق ليعرضها على سيّدنا الشّيخ الفاضل. وبالفعل، حصل التّوفيق للشّيخ سلمان بأن التقى مع سيّدنا الشّيخ الفاضل، الّذي سمع منه تفاصيل "المجراويّة" وأثنى على جهوده ودقّته في تأليفها. وقد استمرّت هذه الزّيارة أيّامًا عديدة، اجتمع خلالها الشّيخ سلمان مع كبار مشايخ حاصبيّا والمنطقة، والتقى بأهله وأقاربه من آل طريف، الذّين استمرّوا في السّكن في مدينة حاصبيّا.

لم تكن هذه الزّيارة للشّيخ الفاضل واحدةً ووحيدة، إذ عزم الشّيخ سلمان بعد سنواتٍ عدّة على القيام بزيارة جديدة لسيّدنا الشّيخ الفاضل، بعد أن حضّر له هديّة عبارةً عن مخطوطة نسخها بخطّ يده الحسن، لتضمّ نصوصًا من كتاب الله. عند وصوله إلى قرية شويّا، دخل الشّيخ سلمان إلى منزل سيّدنا الشّيخ الفاضل، الّذي استلم منه الهديّة، وانبهر بأناقة خطّه وحُسن ترتيبه وكتابه وحرفه، فأثنى عليه أمام الحاضرين وأطلق عليه أمامهم لقب "الكاتب"، اعترافًا بموهبته النّادرة في حرفيّة النّسخ. وقد استمرّت هذه الزّيارة مدّة شهر، عاد الشّيخ سلمان بعدها إلى قرية جولس.

أمّا عن تسمية ابنه، يُحكى عن الشّيخ سلمان أنّه اجتمع يومًا بمشايخ بلده، وبدأ يقرأ على اسماعهم المشايخ قصّة النّبيّ صالح عليه السّلام، إذ دخل رسولٌ يخبّره بأنّ زوجته وضعت طفلًا ذكرًا معافى، فقام الشّيخ سلمان بإطلاق اسم "صالح" عليه" كرامةً للقصّة ولسيرة النّبيّ صالح. وهنا أصبح من غير اللائق ان تتم صلاة الجماعة في البيت، فسعى الشيخ سلمان الى اقامة الخلوة في مبنى روماني عتيق قريب منهم.

هكذا، عاش الشّيخ سلمان حياةً صرفها لوجه الله، حتّى برز اسمه بين أوساط رجال الدّين الّذين وثقوا بعلمه. وقد كان من بين هؤلاء سيّدنا الشّيخ الفاضل، الّذي دعا واستضاف الشّيخ سلمان مرارًا لحضور مذاكراته العلميّة المذهبيّة، والإدلاء برأيه في بعض المسائل الفقهيّة الدّينيّة. ولـمّا شاء القدر برحيل سيّدنا الشّيخ الفاضل إلى جوار ربّه، شارك الشّيخ سلمان في مراسم جنازته مدّة شهر كامل، يستقبل وفود المعزّين ويواسي الأهل والمشايخ في وادي التّيم. من بعدها، عاد الشّيخ سلمان إلى جولس آخذًا على نفسه عهدًا غليظًا بتدوين كلّ ما سمعه وعاينه من نصائح وتعاليم ونهج سيّدنا الشّيخ الفاضل رضي الله عنه، بما في ذلك تدوين كلّ ما اكتسبه خلال مذاكراته العلميّة، من إجابات سيّدنا الشّيخ الفاضل حول الأسئلة الّتي عرضت عليه خلال تلك الجلسات.

مع وفاة سيّدنا الشّيخ سلمان الكاتب عام 1647م، تقرّر دفن جثمانه الطّاهر في المقبرة الشّماليّة في جولس. وقد حصل على مرّ السّنين التباسٌ تاريخيّ، في حين اعتقد البعض أنّ قبره موجود في حاصبيّا وهو قائمٌ هناك حتّى الآن، ولكنّ الحقيقة التّاريخيّة أنّ القبر الموجود اليوم في حاصبيّا ليس هو قبر سيّدنا الشّيخ الكاتب، وإنّما هو قبر أخيه الشّيخ خير طريف الّذي فارق الحياة في حاصبيّا، خلال إحدى الزّيارات الّتي قام بها هناك.

سيّدنا الشّيخ علي الفارس (ر) المعروف بـِ "قتيل الشّوق"

تعتبر شخصيّة سيّدنا الشّيخ علي الفارس أيقونةً توحيديّةً خالدةً، إذ برز سبّاقًا في مضمار المحبّة الإلهيّة، مخلّفًا بعد رحيله مجموعةً كبيرة من الأشعار الصّوفيّة الرّاقية، الّتي نظمها في عتابه لنفسه، وبثّ أشواقه إلى الله تعالى وإلى الأنبياء الكرام.

كانت ولادة هذا السّيد المكرّم في قرية يركا الجليليّة، حيث ظهرت عليه علامات الخير والصّلاح منذ كان طفلًا، وتميّز عن أبناء جيله بقريحته المفتوحة للقراءة والكتابة والاطّلاع. عندما شبّ قليلًا، قرّر الشّيخ علي أن الأوان حان لاتّباع درب الزّاهدين العبّاد، فترك الأهل والأقارب والتجأ إلى مغارة بين قريتي جولس ويركا في سفح جبلٍ في وادي السّمّاك، متّخذًا منها صومعةً للعبادة والتّقرّب من الله، منقطعًا عن جميع العالمين.

 

خلال تلك الفترة، استطاع شيوخ آل طريف تقصّي مكان هذا الوليّ الطّاهر، الّذي اختفى بين ليلة وضحاها عن وجه الأنظار، فعقدوا العزيمة على الوصول إليه وخدمته طمعًا ببركته ودعاه. في أعقاب ذلك، وصل أبناء الشّيخ حسن طريف، محمّد، سلمان وطريف إلى المغارة في وادي السّمّاك، محاولين إقناع الشّيخ بالرجوع إلى بيت أبيه، دون أيّ جدوى. نتيجةً لذلك، سأله الأخوة أن يسمح لواحدٍ منهم بالبقاء معه ليخدمه، نظرًا لبُعد المغارة عن القرية، وانقطاع سيّدنا الشّيخ علي هناك بلا ماء أو طعام، ولكنّ الشّيخ علي رفض ذلك أشدّ الرّفض، تاركًا الإخوة يتّفقون ما بينهم على الخطّة الآتية: يتسلّم محمّد مسؤوليّة إيصال الطّعام والماء يوميًّا إلى الشّيخ في ساعات الصّباح ويقضي معه النّهار في العبادة حتّى المساء، وينوب عنه أخواه في عمله الدّنيويّ.

خلال هذه المدّة، ضاق صدر الشّيخ عليّ من تكليفه للإخوة في خدمته، طالبًا من الشّيخ محمّد أن يتوقّف عن حمل الطّعام والماء إليه، ملحًّا عليه في الطّلب والسّؤال، ولكنّ الشّيخ محمّد لم يقبل طلبه وسأله كيف بوسعه أن يكفّ عن إحضار الماء والشّيخ في أمسّ الحاجة له، فكان جواب الشّيخ علي: "الله يفرّج الأمر كما يشاء"، فأجابه الشّيخ محمّد: "سأتوقّف عن إحضار الماء عندما يفرجها الله"، فرفع الشّيخ علي يديه طالبًا من الله أن يريح الشّيخ محمّد من عناء إحضار الماء.

ولـمّا كانت أبواب السّماء مفتوحةً أمام العابدين الورعين، وخزائن العطاء الإلهي واسعةً بالعطاء من ربّ العالمين، فقد استجاب الله تبارك وتعالى لطلب سيّدنا الشّيخ علي، ففجّر في قبّة المغارة شقوقًا صغيرةً، وأخذت تتساقط منها قطرات المياه موفّرة لسيّدنا الشّيخ ماءً نقيًّا للشّرب.

في صبيحة اليوم التّالي، لم يكد الشّيخ محمد يدخل المغارة كالمعتاد حتّى أصابه الّذهول، وهو يرى الماء ينساب من سقفها عذبًا زلالًا. فما كان من الشّيخ محمّد إلّا وقال لسيّدنا الشّيخ علي متأثّرًا: "لقد أظهر الله كرامتك أيها الشيخ"، فردّ سيّدنا الشّيخ علي قائلًا: "بل هي كرامةٌ لك، إذ استجاب تعالى لدعائي لكي يظهر كرامتك ويريحك من عناء السّفر إليّ كل يوم، فهنيئًا لك بذلك".

لم يتمالك الشّيخ محمّد نفسه بعد عودته إلى البيت مساءً، وسرعان ما حدّث أخويه بما رأته عيناه من كرامة الشّيخ علي، وعاد معهما برفقة أبيهما الشّيخ حسن في صبيحة اليوم التّالي إلى المغارة لكي يشاهدوا ويشهدوا معه على كرامة سيّدنا الشّيخ، مكرّرين عليه دعوتهم في اصطحابه ليقيم معهم في بيتهم في جولس. وقد رفض سيّدنا الشّيخ علي ذلك، وأعلمهم بنيّته في البقاء داخل المغارة حتّى انقضاء ستة وأربعين يومًا، وقد تبقّى منها ثمانيّة أيّام.

بعد انقضاء مدّة الخلوة الأربعينيّة، عاد الشّيخ حسن برفقة أولاده الثّلاثة إلى المغارة، وسألوا سيّدنا الشّيخ أن يقبل خاطرهم بالعودة معهم إلى جولس، والإقامة معهم في منزلهم. نزولًا عند رغبتهم، لبّى سيّدنا الشّيخ الدّعوة منقطعًا للعبادة في خلوة جولس، حيث ذاع هناك صيته وتناقلت النّاس أخباره كعلمٍ فريدٍ من أعلام التّوحيد في البلاد، وقد جاءته الوفود زرافاتٍ زرافاتٍ من كلّ القرى، يشاركونه السّهرات والصّلوات ويطلبون منه بركة الدّعاء.

خلال هذه المدّة، توطّدت العلاقات بين سيّدنا الشّيخ علي وإخوانه أبناء الشّيخ حسن طريف، وأخذت طابعًا حميمًا عائليًّا. من جهته، رأى الشّيخ حسن بإقامة سيّدنا الشّيخ علي في داره نعمةً وبركةً من الله، عاملًا من أجل تيسير احتياجاته وتهيئة كافّة الظّروف لراحته. وقد شاركهم سيّدنا الشّيخ علي هذا الإخلاص والشّعور المتبادل، معبّرًا عنه في محافل كثيرة قائلًا لإخوانه آل طريف "أنتم أهلي، أنتم أحبّائي وهنا بيتي"، إضافةً إلى أنّه كان ينادي أباهم الشّيخ "يا أبي".

شوقًا إلى الله تبارك وتعالى، ورغبةً من سيّدنا الشيخ علي من الانقطاع للعبادة، سأل سيّدنا الشّيخ علي إخوانه من آل طريف، بالسّماح له ببناء خلوة صغيرة تعينه على التّقرّب من باريه. امتثالًا لطلب الشّيخ، سارع الشّيخ حسن إلى قبول خاطر سيّدنا الشّيخ، وقاموا ببناء خلوةٍ على مقربةٍ من بئر ماء، في منطقة تُعرف باسم الدّير.

في خلوته الجديدة، انقطع الشّيخ البتول عن كافّة مظاهر الدّنيا وزينتها، وصرف جُلّ وقته في نظم القصائد الرّوحيّة، الّتي عُرفت بين النّاس باسم "المشوّقات"، لما فيها من تعبيرٍ عن الحبّ الإلهيّ العرفانيّ، وتعبيرٍ عن العجز والتّقصير الّذي اعترف به سيدنا الشّيخ علي أمام أفضال الله تعالى وجزيل عطاياه. ولـمّا لم يكن النّظم موهبة الشّيخ الوحيدة، فقد جاد الله عليه بصوتٍ رخيم جميلٍ، أنشد بمساعدته ما كتبه من قصائده، الّتي كان يصدحُ بها طوال ساعات اللّيل والنّهار، وخلال الاجتماعات واللّقاءات بينه وبين الإخوان.

في مساء ليلة الجمعة الموافقة للرّابع عشر من شهر رمضان المبارك من عام 1267 هجري، وبينما كان سيّدنا الشّيخ علي مستغرقًا في الصّلاة في مجلس الذّكر عند السّاعة السّابعة بعد الغروب، طال سجوده رضي الله عنه فانتبه الإخوان لذلك، محاولين بعد الانتظار تحريكه ليكتشفوا أنّه أسلم الرّوح لباريها في مشهدٍ روحيّ دالٍّ على منزلته وكرامته. هكذا، رحل سيّدنا الشّيخ علي عن عمر ناهز السّابعة والأربعين، أو الواحد والخمسين وفقًا لرواية أخرى.

بعد وفاته، توافدت جموع المشيّعين من جميع مناطق جزيرة الشّام، يودّعون هذا الرّاحل الكبير والطّائر الغريب. ولـمّا حان موعد الصّلاة على الجثمان الطاهر، تقدّم أبناء قرية يركا، مسقط رأس سيّدنا الشّيخ، طالبين دفن الجثمان في أراضي قريتهم، ولكنّ آل طريف أبوا ذلك وأصرّوا على دفنه في قريتهم جولس بجانب الخلوة التي شيّدت من أجله ليتعبّد فيها ويتنسك، وكان في مقدمة المشيّعين الّذين أبّنوا سيادته فضيلة المرحوم الشّيخ محمود نفّاع الرّئيس الرّوحيّ للطّائفة الدّرزيّة في البلاد آنذاك، ملقيًا الخطاب التّالي:

"بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم. في هذا اليوم فقدنا من بيننا علمًا من الأعلام وانطفأ كوكب في السّماء أنارت لوجوده وحضرته المساجد وغياهب الظّلمة. لا شكّ أنّه وحيد هذا الزّمان، أرسل من قبل الرّحمن لتنوير طريق الإيمان والتّحذير من العصيان، ونشر المحبّة والشوق لإمام الزّمان صلّى اللّه عليه وسلّم، فوُجد رحمة من ربّ العالمين الرّحمن الرّحيم. لقد ذرفت لعظم المصاب العيون دموعًا هواملَ من كلّ قاصٍ ودانٍ وسيّد فاضل، فيا لها من مصيبة عظيمة حلّت على قوم الموحّدين، فكدّرت عيشًا كان بوجوده قد طاب. فألف ألف رحمة تلفّ هذا الجسد الطّاهر، وهنيئًا لهذه الأرض الطّيّبة الّتي تنعّمت بدوس أقدامه العزيزة، ولكن مهما نشيد بمقامة ومنزلته لا نوافيه حقّه، فهو من الأولياء الأكابر ومن الأتقياء القلائل، وعزاؤنا الوحيد أن نسير على دربه الحكيمة ونقتدي بسيرته العجيبة، ونعتبر بكراماته المذهلة الّتي أكّدت للعيان بمنّة الرّحمن منزلة سيّدنا المرحوم الشّيخ علي الفارس. ولقد قرّرت بضمير مرتاح وهداية من الرّحمن التّنازل عن المشيخة الدّينيّة والوكالة على الأماكن المقدّسة للطّائفة الدّرزيّة لآل طريف وللشّيخ محمّد حسن طريف، اعترافً له بالجميل وتقديرًا لخدماته الجمّة لهذا السّيّد المطاع، والسّلام عليكم جميعاً وإنّا لله وإنّا إليه راجعون".

بعد هذا التّأبين، أقيمت الصّلاة على جثمان هذا الوليّ الطّاهر على مسمع ومشهد من الحشود المؤلفة، وبويع الشّيخ محمد ابن الشّيخ حسن طريف، رئيسًا روحيًّا للطّائفة الدّرزيّة في فلسطين، حيث لا تزال هذه الرّئاسة في أسرة طريف الكريمة يتوارثها الخلف عن السّلف، كرامةً لخدمتهم سيّدنا الشّيخ علي، وقد دامت رئاسة الشّيخ محمّد الرّوحيّة في البلاد، مدّة اثنتين وأربعين سنةً منذ عام 1753 وحتّى عام 1795.

حول مدفن سيّدنا الشّيخ علي إلى جانب الخلوة الّتي تنسّك فيها، شيّد الشّيخ حسن طريف ضريحًا ومقامًا واسعًا تعلوه قبّة بيضاء ناصعة، تشير للوافدين إلى القرية بذكرى وسيرة هذا السّيّد الوليّ. ولا يزال هذا المقام مفتوحًا حتّى اليوم، تحت إدارة آل طريف والمجلس الدّينيّ الدّرزيّ الأعلى، حيث يتوافد إليه آلافٌ من الزّوار طيلة أيّام السّنة، للتّعرّف على آثار سيّدنا الشّيخ والاستماع إلى تاريخه العطر.

فضيلة الشّيخ محمّد حسن طريف – الرّئيس الرّوحيّ الأوّل

تمّ تعيين الرّئيس الرّوحيّ الأوّل في البلاد من آل طريف، خلال مأتم المرحوم سيّدنا الشّيخ علي الفارس رضي الله عنه. وقد جاء هذا التّعيين في أعقاب تنازل الشّيخ محمود نفّاع عن منصب الرّئاسة الرّوحيّة لعائلة طريف، تقديرًا لرعايتهم واهتمامهم بفضيلة سيّدنا الشّيخ علي الفارس.

مباشرةً بعد تكليفه، باشر الشّيخ محمّد طريف بممارسة مهامّ رئاسته الرّوحيّة، بعد أن تمّ الإبلاغ عن خبر تولّيه الرّئاسة الرّوحيّة لديوان الوالي العثماني في ولاية عكا التّابعة آنذاك لسنجق بيروت. في أعقاب ذلك، قام الشّيخ محمّد بزيارة للوالي في عكّا، رافقه فيها لفيفٌ من رجال الدّين، حيث قابلهم الوالي بالتّرحيب الشّديد، مفسّرًا للشّيخ محمّد ما أوكل إليه من الصّلاحيّات والواجبات الّتي تنحصرُ في الأمور المذهبيّة فقط بعيدًا عن قضايا الضّرائب وأوامر التّجنيد، ومشدّدًا على المكانة الممّيزة للطّائفة الدّرزيّة في الدّولة العثمانية، واحترام الدّولة لمنظومة الطّائفة الدّينيّة الّتي تختلف عن المنظومة الإسلاميّة.

بعد حصول الشّيخ محمّد على اعتراف رسميّ من الدّولة العثمانيّة، عاد برفقة إخوانه وانطلق معهم لزيارات شملت كافّة القرى والتّجمّعات الدّرزية في الكرمل والجليل، متعرّفًا من خلالها على السّكّان والمشايخ والوجهاء في كلّ قرية وقرية. وذلك، في فترة كان فيها عدد القرى الدّرزيّة كبيرًا في البلاد، بعد أن تمّ بناؤها على يد الأمير فخر الدّين المعنيّ الثّاني الّذي حكم منطقة لبنان والأردن وفلسطين حتّى العريش، إلى جانب قرى درزيّة أخرى كانت عامرةً آنذاك مثل قرية وادي سلامة، الجرمق، أمّ الزينات، الجديّدة، المكر والمنصورة. الأمر الّذي أكثر انشغالات الشّيخ محمّد الّذي حمل مسؤوليّة جميع هذه القرى، مع صعوبة الطّرق والمواصلات في تلك الحقبة.

بعد زوال حكم المعنيّين، تضاعفت قوّة الدّروز في البلاد، في حين حاولت بعض الأوساط أن تنال مهم وتطاردهم لتلحق الأذى بهم. لكنّ وجود الشّيخ محمد طريف شكّل سدًّا أمام هذه المحاولات، إذ استخدم صلاحيّات منصب الرّئاسة الرّوحية، معزّزًا علاقاته مع الولاة العثمانيّين ومؤمّنًا الحماية اللّازمة للدّروز في كافّة القرى والبقاع.

خلال فترة رئاسته الرّوحيّة، أسدى الشّيخ محمّد خدماتٍ كثيرة شملت أيضًا الدّروز خارج البلاد، في حين ربطته مع الزّعماء الدّروز في سوريّا ولبنان علاقات تواصل وثيقة، استطاع من خلالها أن يوحّد كلمة الدروز وأن يمنع الانشقاق بين دروز لبنان الّذين انقسموا آنذاك بين جنبلاطيّ وأرسلانيّ.

وقد كانت وفاة الشّيخ محمّد في سنة 1795 حيث أقيمت له جنازة كبيرة في قرية جولس، شاركت فيها جماهير غفيرة شملت كبار مشايخ الطّائفة الدّرزيّة ووجهاء المنطقة والولاة والحكّام العثمانيّين وقناصل من بعض الدّول. وقد تمّ في نهاية الجنازة، إعلان نجله الشّيخ سليمان طريف، ليكون رئيسًا روحيًّا من بعد والده، ويستلم مسؤوليّات المنصب.

فضيلة الشّيخ سليمان محمّد طريف – الرّئيس الرّوحيّ الثّاني

هو الرّئيس الرّوحيّ الثّاني من عائلة طريف. نشأ وترعرع في بيتٍ دينٍ وقيادةٍ دينيّة، مرافقًا والده الّذي شغل آنذاك منصب الرّئاسة الرّوحيّة في كافّة تنقّلاته واجتماعاته. وقد درس الشّيخ سليمان من والده تجربة القيادة على أصولها، وتربّى ليتعلّم كافّة احتياجات ومسؤوليّات هذا المنصب.

بعد استلامه الرّئاسة الرّوحيّة، ترأس فضيلته وفدًا من مشايخ الطّائفة الأعلام، وانطلقوا معًا في جولات تفقّدية لكافّة القرى الدّرزيّة في البلاد، سائلين عن أحوال أهلها واحتياجاتهم المختلفة. كذلك، فقد قام فضيلته بإجراء اتّصالات مكثّفة مع القيادات الدّرزيّة في سوريا ولبنان، منسّقًا معها مواقف مشتركة حول قضايا الطّائفة المصيريّة. وقد كانت أحد أهمّ الأحداث الّتي جرت في فترة رئاسته، ما حصل من محاصرة القائد الفرنسيّ نابليون لمدينة عكّا وعجزه رغم قوّة عتاده وجيوشه عن فتحها. الأمر الّذي حدا بنابليون لبعث برقيّة طارئةٍ إلى الزّعامات الدّرزيّة، يطلب من خلالها مساعدته في الانتصار على الجزّار وقوّاته داخل أسوار عكّا. وقد استقرّ رأي الزّعماء الدروز ومن بينهم الشّيخ سليمان طريف على اتّخاذ موقفٍ حياديّ من الأحداث، رافضين طلب نابليون.

وقد كان للشّيخ سليمان دورٌ كبير آخر، بذله عام 1811 في استيطان عائلات درزيّة حلبيّة في الجليل والكرمل، بعد ما يسمّى بــِ "الهجرة الحلبيّة"، الّتي أوردت عنها موسوعة التّوحيد الدّرزيّة أنّها "ضمّت مجموعة مؤلّفة من أكثر من 400 عائلة من سكّان منطقة حلب والجبل الأعلى، الّتي تمّ إنقاذها ونقلها إلى أماكن آمنة في لبنان وفلسطين. وقد تسّبب في هذه الهجرة التّعصّب الدّينّي، حيث وصل الوهابيّون إلى سوريا وسبّبوا في مهاجمة القرى الدّرزيّة، فطمع جيران الدّروز بأرزاق الدّروز وهجموا عليهم تحت غطاء الوهّابيّين، ونهبوا وحرقوا، فاضطرّ السّكّان إلى النّزوح والهجرة، ولم يكن بمقدورهم المحاربة والمقاومة لقلّة عددهم أمام القوّات المعادية. فوصلت أخبارهم إلى لبنان، حيث كان الشّيخ بشير جنبلاط في أوج قوّته، وكان من أغنى أغنياء المنطقة، فأرسل بعثة من أربعة أشخاص برئاسة الشيخ حسّون ورد، واستطاعت هذه البعثة أن تنقل العائلات المهجّرة إلى لبنان، ثم وزّعها على القرى الدّرزيّة في لبنان وفلسطين داعمًا إيّاها. وكان المهجّرون ينتمون إلى عائلات مختلفة تحمل أسماء مختلفة، وبعد هذه الهجرة وبعد أن سكنوا في المناطق الجديدة أُطلق عليهم اسم "الحلبيّين". وقد قام الشّيخ سليمان طريف بالتّعاون مع الشّيخ مرزوق معدّي باستقبال أفواج متعدّدة من الهجرة الحلبيّة وإيوائها وتقديم المساعدة لها وتوجيهها للاستيطان أينما تشاء، ففضلت العائلات الحلبية الّتي قدمت إلى بلادنا أن تبني لها بيوتًا في قرى دالية الكرمل، عسفيا، يركا وبيت جنّ. وفي دالية الكرمل كبرت عائلة حلبي وأصبحت أكبر عائلة في القرية وأكبر عائلة بين دروز البلاد".

هذا، وقد قام بقيادة دروز لبنان في تلك الفترة الشّيخ بشير جنبلاط، الّذي كان ذا ثروة وجاه وخصال قياديّة كبيرة، ودعم الأمير بشير الشهابي الّذي انتخبته الأسر الإقطاعيّة الدّرزيّة وغيرها ليحكم لبنان ويدير شؤونها، لكنّ بشير الشّهابي تنصّر وأخذ ينحاز للقوى الّتي أرادت أن تنزع من الدروز مركزهم وقوّتهم، فاستطاع في هذه الفترة القضاء على الشّيخ بشير جنبلاط بعد أن أقنع والي عكّا أن يحكم بالإعدام عليه وعلى سيّدنا الشيخ أمين العماد. وقد قام الشّيخ مرزوق معدّي بنقل جثّتي الشّيخين من عكّا إلى يركا بعد أن ظلّتا معلّقتين لمدّة ثلاثة أيّام، وهناك نظّم جنازة مرتبة حافلة تليق بمقام الزّعيمين الكبيرين، وقام بالصّلاة عليهما فضيلة الشّيخ سليمان طريف كرئيس روحيّ للطّائفة الدّرزيّة في البلاد، الّذي شارك في مراسيم العزاء والحداد على الزّعيمين الكبيرين، محاولًا في نفس الوقت أن يتدخّل لدى الّسلطات العثمانيّة ويطالبهم بتخفيف الضّغط والتّحريض الّذي مارسه بشير الشهابي ضدّ الدروز في لبنان، بما ألقى بظلّه أيضًا على بلادنا، الّتي عانت من التخلّف وفرض ضرائب باهظة. وقد كان للشّيخ سليمان دوره الكبير في التّصدّي لهذا الظّلم ومنع القلاقل والمشاكل قدر المستطاع.

وقد كانت وفاة الشّيخ سليمان في عام 1833م، حيث تم تشييع جثمانه في موكب مهيب في قرية جولس، شارك فيه مشايخ ووجهاء من سوريا ولبنان ومن كافّة قرى الجليل والكرمل ونابلس حيث كان للمرحوم عدد كبير من المعارف هناك.

وقد خلّف الشّيخ سليمان وراءه ابنه الشّيخ محمّد سليمان حسن طريف (1864-1833) الّذي تسلّم من بعد والده منصب الرّئاسة الرّوحيّة، وأختًا وحيدة اسمها "فاطمة"، عُرفت بين النّاس بتقواها وتديّنها وجماليّة النّسخ وقوّة الحفظ، حيث يُذكر أنّها نجحت في حفظ نسب آل طريف بدءًا من جدّها محمّد حسن طريف، وانتقلت بفضلها معلومات خطّيّة هامّة عن تاريخ آل طريف والقيادة الرّوحيّة لدروز بلاد صفد.

فضيلة الشيخ محمد سليمان طريف – الرئيس الروحي الثالث

تسلم الشيخ محمد أعباء الرئاسة الروحية للدروز في البلاد في فترة من أصعب الفترات التي واجهتها الطائفة الدرزية خلال تاريخها ففي لبنان كان بشير الشهابي يطارد الزعماء الدروز ويلاحقهم ويضيق الخناق على أبناء الطائفة الدرزية. وبعد زوال حكم بشير الشهابي وقعت احداث دامية خطيرة بين الدروز والمسيحيين في أماكن مختلفة من لبنان بلغت أوجها في حوادث الستين الدامية التي أسفرت عن مقتل عدد كبير من الجنود والمواطنين من الطرفين. وحصل نتيجة لذلك تدخل الدول الأوروبية المسيحية في الأمر ولم يكن هذا التدخل منصفا فقد اتهم الدروز بالقتل والدمار ولم تلق أي تبعة على المسيحيين الذين استعانوا بالإرساليات الأجنبية وبالقناصل وبالمؤسسات التبشيرية من أجل فرض سيطرتهم على البلاد. ونتيجة لمطاردة السلطات العثمانية للمواطنين الدروز في لبنان بتحريض من الدول الغربية اضطرت عائلات درزية أن تلجاً إلى دروز البلاد فقامت كافة العائلات الدرزية في الجليل والكرمل بالترحيب بالعائلات النازحة واستقبالها ومد يد المساعدة لها وكل ذلك بدعم وتأييد من الشيخ محمد طريف الرئيس الروحي.

وفي نفس الوقت عانى دروز سوريا في جبل الدروز من وطأة الثورة ضد الغازي إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا حاكم مصر الذي اجتاح كافة مناطق الإمبراطورية العثمانية بين مصر والقسطنطينية واحتلها وفرض سلطته عليها وفعل بها ما شاء. وقد حاول إخضاع الدروز في جبل الدروز وتجريدهم من أسلحتهم وتجنيد شبابهم وفرض الضرائب الباهظة عليهم فأعلنوا التمرد والثورة وكسروا كافة الحملات العسكرية التي أرسلها إلى الجبل. وقد استمرت الثورة مدة سبع سنوات وانتهت عام 1839 عندما قام إبراهيم باشا بقيادة حملة عسكرية مؤلفة من حوالي أربعين ألف جندي ولم يستطع التغلب عسكريا على الثوار فقام بتسميم عيون الماء في الجبل مما اضطر الثوار بقيادة الشيخ إبراهيم الهجري والزعيم شبلي العريان أن يوافقا على هدنة واتفاق بتجنيد رمزي لبعض الشباب وتسليم بعض الأسلحة ودفع بعض الضرائب. وبعد أن انتهت الثورة قام إبراهيم باشا بالانسحاب من سوريا ولبنان مارا بجانب حيفا. وكان هناك من أخبره أن مجموعة من القرى الدرزية موجودة على جبل الكرمل فما كان منه إلا أن أرسل كتيبة من جنده إلى أعالي الكرمل قامت بتخريب القرى الدرزية انتقاما لعدم نجاحه بالتغلب على الدروز أثناء الثورة عسكريا. وقامت هذه الكتيبة بهدم غالبية القرى الدرزية التي بناها في حينه الأمير فخر الدين المعني الثاني وتجمع السكان في قريتي دالية الكرمل وعسفيا، وقد قام فضيلة الشيخ محمد طريف بالإشراف على عملية استيعاب النازحين في القريتين وتوطنهم في أماكنهم الجديدة وحصولهم على أراض ومساعدات كي يعتمدوا على انفسهم. وخلال الثورة في جبل الدروز قام بعض الأهالي من سكان الجبل باللجوء إلى أقاربهم في البلاد والسكن معهم حتى تهدأً الأمور في الجبل وتعود المياه إلى مجاريها. وكان الرئيس الروحي الشيخ محمد مطلعا على كل هذه الأمور وحاول أن يخفف عن النازحين وأن يقدم لهم كل مساعدة.

وقد استمر الشيخ محمد برعاية الأماكن المقدسة في البلاد والاهتمام بالخلوات وتنسيق الشؤون الدينية والمواضيع المذهبية إلى أن انتقل إلى رحمته تعالى عام 1864 بعد أن خدم أبناء طائفته وقدم لهم كل عون ومساعدة. وجرت له جنازة شاملة في قرية جولس بحضور جماهير غفيرة ونال المدح والثناء والرحمات وأعلن بنفس المناسبة عن الرئيس الروحي الجديد وألبست العباءة لفضيلة الشيخ مهنا محمد طريف.

فضيلة الشّيخ مهنّا محمّد طريف – الرّئيس الرّوحيّ الرّابع

هو الرّئيس الرّوحي الرّابع للطّائفة الدّرزيّة من عائلة طريف، تولّى الرّئاسة الرّوحيّة عام 1864م، خلفًا عن والده المرحوم فضيلة الشّيخ محمّد طريف، وظلّ في منصبه حتى وفاته عام 1889، بعد أن قام بإنجازات كبيرة أطلق عليه في إثرها لقب "السّيّد".

وقد نشر عن الشّيخ مهنّا طريف السّيّد، مقالٌ صدر في مجلة "العمامة" بقلم الشّيخ وسيم طريف وجاء فيه: "ولد المرحوم الشّيخ مهنّا طريف عام 1849م لوالدين ورعين تقيّين في قرية جولس، وتربّى منذ بدايته على التّربية الصّالحة الحسنة الدّينيّة المقترنة بالآداب التّوحيديّة. وقد نشأ الشّيخ مهنّا وشبّ على تحصيل العلم الشّريف والدّرس والحفظ ملتحفًا بتقوى الله تعالى، متّسماً بحسن الخلق والحلم والتواضع.

تربّى الشّيخ مهنّا مع أخويه المرحومين الشّيخ طريف محمّد طريف والد المرحوم سيّدنا الشّيخ أبي يوسف أمين طريف، والشّيخ أحمد محمّد طريف والد المرحوم الشّيخ علي حمادة طريف، على هذه الفضائل التّوحيديّة السّامية متمسّكين بأهداب الأخلاقيّات التّوحيديّة والعلوم الدّينيّة الرّوحانيّة.

كان الشّيخ مهنّا كبير إخوته، وعندما بلغ سنّ الخامسة عشرة من عمره توفّي والده المرحوم الشّيخ محمّد طريف، ليتمّ تعيينه عند تشييع الجنازة رئيسًا روحيًّا خلفًا لوالده، وذلك لما لقوه واستحسنوه من ديانة الشّيخ مهنّا وتقواه.

في ذلك الوقت ومع مرور السّنين، لاحظ الشّيخ مهنّا طريف كون مقام سيّدنا النّبي شعيب (ع) صغيرًا وضيقًّا، يتعذّر أن يكون مأوى للزائرين الّذين تزايدت أعدادهم يومًا بعد يوم. عليه، بادر الشّيخ مهنّا إلى عقد اجتماع كبير مع مشايخ الدّين ومن بينهم المرحوم سيّدنا الشّيخ خليل طافش من كفرسميع، المرحوم الشّيخ أبو قاسم محمّد فرهود من الرّامة، والمرحوم الشّيخ سليمان حموّد من يركا، وتمّ اتخاذ القرار بعد أخذ المشورة بحاجة المقام لمشروع توسيع وإعمار، مع الأخذ بالحسبان أنّ طاقات الطّائفة المادّيّة ومواردها المحلّيّة، غير قادرة الباتّة على القيام بهذا المشروع الضّخم. بناءً على ذلك، أقرّ الحضور بوجوب جمع التّبرّعات والدّعم المادّيّ من أبناء الطّائفة في لبنان وسوريا. وقد أُرسل المشايخ السّابق ذكرهم من أجل أداء هذه المهمّة، وهم يحملون كتاب توصيةٍ وقّعه الشّيخ مهنّا طريف باسم أبناء الطّائفة في البلاد، وقوبلوا هناك بالتّرحيب ليعودوا إلى بلادنا وقد يسّر الله مطلبهم ببركة سيّدنا شعيب.

ومن المرويّ عن هذا المشروع المبارك، أنّه تمّ وسط مشاركة مئات من العمّال، إلى جانب بنّائين مختصّين تمّ إحضارهم للقيام بأعمال البناء. وقد ذكرت أحاديث السّلف أنّه كان لا بدّ في بداية العمل من حفر أساسات البناء والعقود، الّتي أضيفت للعقدين القائمين منذ فترة صلاح الدّين الأيوبيّ. وقد وصل العمّال في إحدى هذا الحفر إلى عمق بلغ ما يقارب الخمسة عشر مترًا، مما سبّب لهم الخوف والقلق من متابعة بالعمل. فلمّا رأى الشّيخ مهنّا منهم هذا القلق والتّواني، شمّر بسرعةٍ عن ساعديه، وربط خصره بالحبل آمرًا العمّال بإنزاله إلى أعماق الحفرة، مستكملًا العمل لوحده حتّى وصوله إلى القاعدة الصّخريّة.

أثناء أعمال البناء، صادف العمّال مشكلة هندسيّة أخرى، إذ تبيّن وفقًا لأعمال البناء الجديدة أنّ الضّريح ستعلوه دعامةٌ للعقد المبنيّ في أعقاب خطأ في التّخطيط المعماريّ. وقد استغرق كبير البنّائين آنذاك واسمه "البقعوني" في التفكير بهذا الخلل، طالبًا رأي الشّيخ مهنّا في حلّه أو الإبقاء عليه، فكان جواب الشّيخ مهنّا أنّ العمل لم يقام إلّا من أجل هذا الضّريح الشّريف، وعليه يجب أن يكون الضّريح غير مقيّد بأيّ عامود حوله. وبعد تفكير عميق، أشار الشّيخ مهنّا إلى البنّاء البقعوني بأن يبني فوق الضّريح قنطرةً، يدعم بها العقد دون الحاجة إلى عامود، وقد نفّذت وصيّة الشّيخ مهنّا، وبقيت القنطرة على حالها إلى يومنا هذا.

وقد دام العمل على تعمير المقام الشّريف ما يقارب عشر سنوات متتالية، قضاها الشّيخ مهنا مشاركًا بأيديه الكريمة في أعمال البناء. ومن النّوادر الفريدة المؤثّرة خلال هذا المشروع، أنّه كان لا بدّ أثناء العمل بجانب الضّريح الشّريف من إزالة بعض الحجارة هناك تهيئةً للبناء الجديد. وقد حصل أثناء العمل أن زال من الأرضيّة حجرٌ صغير، فانبثق النّور من داخل الضّريح الشّريف، خاطفًا أنظار الجميع، ومؤكّدًا وجود جثمان سيّدنا النّبي شعيب عليه السّلام في تلك البقعة الطّاهرة.

بعد أن أشرف البناء على الانتهاء في نهاية عام 1884م، اجتمع أعيان البلاد وشيوخها للتّشاور حول موعد التّدشين الرّسميّ، حيث أستقر الرّأي أن يكون في تاريخ 25 نيسان من عام 1885م. وهكذا بالفعل، تمّ في التاريخ المذكور تدشين المقام الشّريف، وسط حضور عدد كبير من أبناء الطّائفة الدّرزيّة من سوريا ولبنان والبلاد، معلنين الخامس والعشرين من نيسان فيّ كلّ عام ليكون زيارةً رسميّةً للمقام الشّريف في حطّين. 

في هذا الباب، نورد ما ذكر من وصفٍ شيّق ونادر لإحدى الزّيارات السّنويّة للمقام، أوردها تقرير كتبه الصّحفيّ والكاتب الأسكتلنديّ لورانس أوليفانت، الذي زار المقام مع عدد من سكّان دالية الكرمل عام 1883 ووصف مراسيم الزّيارة بقوله:

"كنت محظوظًا إذ سمح لي بالمشاركة في هذا الاحتفال وهو امتياز لم يحظ به غريب قبلي على ما أعلم. إنّ البناء الّذي أقامه الدّروز فوق القبّة المتداعية، قد كلّف حتّى الآن خمسة آلاف دولار جمعت كليًّا من الّدروز أنفسهم، ولم يكمل البناء بعد. كان المنظر مدهشًا. الشّيوخ الدروز وقد رغبوا في تكريم ضيفهم، اصطفّوا لمقابلتي في صفّين وأطلقت النّار، كما أطلقوا حناجرهم بأغاني الاستقبال، وعجّ البناء الأبيض بالرّجال والنّساء في لباسهم ذي الألوان الزّاهية والمنسجمة مع المناظر الرّومانتيكية. إنّ الاحترام الّذي يبدونه نحو كبير المشايخ، والعبارات الحارّة الّتي يتحدّثون بها عنه، لا يمكن إلّا أن تكون صادقة، وحقًّا فقد بدا أنّه يستحقّ ذلك، فعلى الرّغم من أنّه شابّ حديث السّنّ، في حوالي الخامسة والثّلاثين من عمره، إلّا أنّه ابن لعائلة عريقة، ومع هذا فهو يتميّز بتواضع جمّ وعطف على الآخرين. وبينما كنّا جالسين نتحدّث سمعنا ضوضاء من الخارج، فنهض الجميع لاستقبال وفود جديدة من المشايخ قدمت الى المكان، وتعالت أصوات الاستقبال، وأُطلق الرّصاص ترحيبًا بالقادمين، وتكرّر هذا المشهد عدّة مرات. وعندما أذنت الشّمس الى المغيب جاء وقت الطّعام، فتقدّمت بعض النّساء وعلى رؤوسهنّ أطباق مليئة بالأرزّ، فوقها قطع كبيرة من اللّحم، وتجمّع حول المناسف عدد كبير من الزّوّار، أقدّره بحوالي 400 – 300 شخص. وإطعام عدد هائل من الناس كهذا، ليس بالأمر الهيّن، وقد قام به الدّروز بلباقة وكرم وإتقان. وبعد الانتهاء من الطّعام، جاء دور الأفراح والاحتفالات الشّعبيّة، فانتظمت حلقتان من الدّبكة، واحدة للنّساء وواحدة للرّجال، وكانت حلقات الرّقص تقتصر على الشّباب من بين الجمهور المتواجد. أمّا الشّيوخ، فقد جلسوا في دوائر داخل المقام، يتداولون شؤون السّاعة الدّينيّة والسّياسيّة. وبعد فترة من الزّمن، أوعز المشايخ للمحتفلين في الخارج بأن يكفّوا عن دبكاتهم وأهازيجهم، وأن يخلدوا إلى السّكينة، وبدأ جميع الشّيوخ بالدّخول إلى القاعة الكبيرة في المقام لأداء الصّلوات. واستمرّت صلوات الدّروز طوال اللّيل. لا شكّ لديّ، أنّ احتفالات الدّروز في مقام النّبيّ شعيب لا تحمل طابعًا دينيًّا فقط، وإنّما تُعقد لأهداف سياسيّة كذلك، فالدّروز متواجدون في عدّة مراكز في سوريا ولبنان وفلسطين، وهم يستغلّون هذه الفرص للتّباحث فيما بينهم بأوضاعهم، ولمعاملة الحكومة العثمانيّة والسّلطات الأخرى لهم. وقد قضيت في مقام النّبيّ شعيب في حطّين يومين كاملين، كانا من أجمل الأيّام في حياتي. شاهدت فيهما الكثير عن الدّروز وعرفت الكثير عنهم، وأعتقد أنّني أول غربيّ يسمح له بأن يكون قريبًا إليهم إلى هذا الحدّ".

بعد أربع سنواتٍ على تدشين المقام، انتقل الشّيخ مهنا في عام 1889م إلى رحمة الله، وذلك قبل انتهائه من حملةٍ أطلقها من أجل جمع الأموال في سبيل إعمار مقام سيّدنا الخضر عليه السّلام. وقد خلّف الشّيخ مهنا بعد وفاته ولديه سليمان الّذي كان عندها ابن خمس سنوات، وسعيد الّذي كان لا يزال رضيعًا. في مأتمه، اجتمعت حشود كبيرة وصلت حتّى ألفين وخمسمائة مشارك، حيث تمّ دفنه بجانب ضريح المرحوم سيّدنا الشّيخ علي الفارس في جولس.

" كان مساء الإثنين الواقع في 21 الجاري مساءً ترتجّ من هوله الأضلاع وتستكّ منه المسامع، حيث فيه استأثرت المنيّة بالمرحوم المبرور السّيّد النّبيل، والشّيخ الطّاهر الجليل، شيخ مشايخ العقل والدّين لطائفة الدّروز بلواء عكّا، الشّيخ مهنا ابن الشّيخ محمّد طريف من أهالي قرية جولس. تخرّمته المنيّة غضّ الشباب غير متجاوز سنّ الأربعين إثر داء عياء أعيا الأطباء ولم ينجح به دواء، على أنّه لم يدم سوى أربعة أيام فقضى عليه مخلّفًا في القلوب جمرات أحزان لا تطفى نارها، ولظى لوعة لا يخمد أوارها. وما طلع صباح الثّلاثاء حتّى انتشر منعاه في سائر أنحاء اللّواء، فهرع النّاس على اختلاف الطّوائف لحضور مأتمه العظيم، ولم يبق فرد من أفراد طائفته إلّا النادر حّتى شهد هول ذلك اليوم الرّائع. 

فغصّت بالوافدين باحات القرية وطرقاتها الفسيحة، واجتمع إليها ما ينوف عن ألفين وخمسمائة نسمة، وكان لاجتماع ذلك الحشد منظر يذيب الأكباد ويحرّك الجماد، لما كان من شعائر الحزن وسمات الأشجان الظاهرة على أوجه الحاضرين، فكنت كيف نظرت ترى قلبًا خافقًا وجفنًا مقروحًا وفؤادًا بالحزن مجروحًا. ولما أزفت السّاعة التّاسعة من ذلك النّهار، رفع نعشه إلى جانب أسلافه وأجداده الكرام، وبعد أن صلّوا عليه بحضور فضيلة نائب ساحل عكا مكرملو محمّد أفندي الصّالح الترّشيحيّ، واروه الثرى ذارفين على ضريحه دمعًا سخينًا. وحينئذٍ وقف كل من أخويه الشّيخ طريف والشّيخ أحمد مع جناب حميه الشّيخ صالح أفندي اليوسف ترجمان أول لدولة غيران العليّة، وهرع الجميع لتعزيتهم على فقيدهم الكريم، يتقدّمهم فضيلة النّائب المومى إليه والكهنة والذّوات ومشايخ العقل. وقتئذٍ انتصب حضرة النّائب العام مع مشايخ العقل مخاطبين الجميع ومظهرين ارتياحهم لاتّخاذ الشّيخ طريف شيخًا لمشايخ العقل عوضًا عن أخيه المتوفّ،ى نظرًا لما هو عليه من التّقوى والاستقامة واللّياقة بهذا المنصب، فوقع ذلك الرّأي عندهم موقع الاستحسان راجين من الشّيخ المذكور أن يكون نعم الخلف إلى خير سلف، ونظرًا لما كان عليه الفقيد من طاهر السّمعة وما كان له من الأيادي البيضاء."

فضيلة الشّيخ طريف محمّد طريف – الرّئيس الرّوحيّ الخامس

هو الرّئيس الرّوحيّ الخامس للطّائفة الدّرزيّة من آل طريف. شغل هذا المنصب أواخر القرن التّاسع عشر ومستهلّ القرن العشرين، بعد أن قلّد إيّاه مع وفاة أخيه المرحوم الشّيخ مهنّا طريف عام 1865م.

وقد نشأ الشّيخ طريف منذ نعومة أظفاره في ظلّ المسؤوليّة، يشارك أباه المرحوم الشّيخ محمّد طريف في المجالس والاجتماعات، متعلّمًا منه تعاليم الدّين وسبل الخيرات.

بعد تسليمه منصب الرّئاسة الرّوحيّة عام 1889، انطلق الشّيخ طريف في مسيرة قياديّة واعدة، بذل خلالها جهودًا كبير عملاقة في سبيل الاعتراف بالطّائفة الدّرزيّة كطائفة مستقلّة، وذلك في ظلّ الدّولة العثمانيّة الّتي لم تمنح الحقوق والامتيازات إلّا للطّوائف المعترف بها رسميًّا في الدّولة. بناءً على ذلك، طالب الشّيخ طريف بحقّ الطّائفة واستقلالها الدّينيّ، مطالبًا بتعيين قاضيٍ شرعيّ درزيّ، توكل إليه مهمّة البتّ في قضايا الأحوال الشّخصيّة لأبناء الطّائفة في البلاد، أسوة بإخوانهم في سوريا ولبنان. وقد تكلّلت جهود فضيلته بالنّجاح في عام 1990، في حين تمّ إصدار فرمان عثمانيّ رسميّ، عيّن فيه الشّيخ طريف قاضي مذهب في بلاد فلسطين، وأوعزت إليه قبل السّلطات العثمانيّة، صلاحيّة تامّة لمعالجة قضايا الطّائفة الشّرعيّة، وتعيين مأذونين من أبناء الطّائفة الدّرزيّة. وهو التّعيين والاعتراف الرّسميّ الأوّل الّذي حصل عليه أبناء الطّائفة الدّرزيّة في البلاد من قبل السّلطات آنذاك.

في هذا الباب، نشر د. سلمان فلاح مقالًا تاريخيًّا مفصّلًا في مجلة "العمامة"، استعرض من خلاله أحداثًا ومراسلاتٍ متعلّقة بهذا الشّأن، نورد قسمًا منها لأهميّتها التّوثيقيّة:   

" كان عدد الدّروز في فلسطين في العهد العثمانيّ قليلًا وتراوح بين 15-10 ألف نسمة، ولم تكن لهم حالة قانونيّة خاصّة. في عام 1909 قرر مجلس ولاية بيروت الّتي كان دروز فلسطين تابعين لها أن يسري عليهم أمر الباب العالي الّذي اعترف باستقلالية دروز لبنان. وقد أرسل والي بيروت أدهم بن مسعود لمتصرفيّة عكّا جوابًا لتوجّهات وطلبات الدّروز، أن تتمّ معاملة قضاياهم الخاصّة في محاكم منفردة، قائلًا إنّ رسالة شيخ الإسلام لقاضي حاصبيّا عام 1890 سارية المفعول بالنّسبة للدّروز في لواء عكّا أيضًا. وأضاف أنّه من الواجب تنفيذ أوامر الباب العالي برمّتها بالنّسبة لجميع الدّروز، وتجنّب المحاكم الشّرعيّة معالجة أمور الزّواج والطّلاق والوصيّة والورثة عند الدروز. في تاريخ 20 نيسان من عام 1909 أعلن والي بيروت أمام مسؤولين في عكّا، أنّه استجاب لعرائض قدّمها مشايخ ووجهاء الطّائفة الدّرزيّة لنظارة الدّاخليّة في الأستانة وحولت إليه، وأوصى بتعيين الشّيخ محمّد طريف طريف (على الرّغم من أنّ اسم الشّيخ هو طريف، أتّبع في تلك الحقبة إضافة اسم "محمد" قبل الأسماء الشّخصيّة لأصحاب المناصب العالية) قاضيًا للدّروز، وهذا استنادًا إلى قرار مجلس الولاية.

وقد قبل متصرّف عكّا توصية والي بيروت، وعيّن الشّيخ طريف كأوّل قاضٍ للدّروز في فلسطين وذلك في نفس السّنة. من هنا يمكن القول إنّ دروز فلسطين حصلوا على اعتراف شبه رسميّ كطائفة مستقلة، مع العلم أنّ دروز لبنان حصلوا على اعتراف صادر من الباب العالي، في حين حصل دروز فلسطين على الاعتراف من رئاسة ولاية بيروت. إضافةً إلى هذا، فقد تمّ استدعاء فضيلته بعد تعيينه قاضيًا شرعيًّا لأبناء الطّائفة الدّرزيّة لمقابلة السّلطان العثمانيّ في العاصمة إسطنبول، فاستقبل هناك بحفاوة وتكريم، وحاز على ثقة السّلطان ممّا قوّى وعزّز مكانة الطّائفة الدرزية بين مواطني الدّولة العثمانيّة.

على الرّغم من هذا التّعيين الّذي ناله الشّيخ طريف، لم تكن صلاحيّاته على قدرٍ كبير من التأثير الواسع، إذ لم يؤدّ الاعتراف بالطّائفة إلى إقامة مؤسّسات طائفيّة، أو تأسيس محاكم دينيّة درزيّة، بل ضيّقت صلاحيات القضاء الّتي منحت لفضيلته، إذ انها فرضت على الدّروز التوجّه إليه لإطلاق الحكم، فقط في حالة موافقة الطّرفين أصحاب الشأن بذلك. ناهيك أنّ هذا الاعتراف لم يكن بأمر سلطانيّ، أو بموجب قانون سنّ في مؤسّسة معترف بها، وإنمّا جاء بقرار من ولاية بيروت، وهو ما استغلّه الإنجليز بعد ذلك عندما لم يعترفوا بالطّائفة كطائفة مستقلّة ولم يسمحوا لها بإقامة محاكم خاصّة بها.

إلى جانب ذلك، فقد كان لاعتراف الدّولة العثمانيّة بالشّيخ طريف جانب آخر هامّ جدًّا بالنّسبة لدروز فلسطين، وبالنّسبة للشّيخ طريف نفسه، إذ أنّ تعيينه قاضيًا لشؤون دروز فلسطين، شمل تعيينه قاضيًا مسؤولًا عن دروز بيروت أيضًا وفقًا للتّقسيم الجغرافيّ العثمانيّ. وقد مارس الشّيخ طريف صلاحيّاته في مسؤوليّته عن دروز بيروت عام 1908 عندما أثيرت قضيّة تربة الدّروز في بيروت، قام الشّيخ طريف على إثرها بتعيين قاضٍ ينوب عنه في بيروت، وهو الشيخ محمّد أفندي روضة. وقد ورد في النّشرة التي أصدرتها جمعية التّضامن الخيريّ الدّرزيّ المسؤولة قانونيًّا عن أوقاف الدروز في بيروت ومن ضمنها تربة بيروت ودار الطائفة عام 1980 ما يلي:

"تجاه هذا الواقع، تنادي دروز بيروت للاجتماع والعمل على صيانة مقبرتهم من التّعدّي، فألّفوا لجنةً منهم أخذت على عاتقها صيانة الوقف وإحاطته بتصوينة، وراجعت الّلجنة سماحة شيخ عقل الدّروز في عكّا الشّيخ محمّد طريف طريف، لأن دروز بيروت آنذاك تابعون له في عكا بحكم انتمائهم لولاية بيروت العثمانيّة، ومنفصلين عن متصرفيّة جبل لبنان وإخوانهم في الشّوف وعاليه بالرغم من قربهم منهم. فما كان من سماحة شيخ العقل المغفور له الشّيخ محمّد طريف طريف، إلّا أن عيّن نائبًا عنه, المرحوم الشّيخ محمّد أفندي روضة في بيروت، لرؤية وفصل المعاملات والدّعاوى المذهبية المتكوّنة بينهم، في النّظر لعدم وجود رئيس روحيّ لهم بهذا الظّرف وذلك سنة 1326 هجرية. لقد ساعد تعيين قاضي مذهب منهم على مؤازرة اللّجنة الموكلّة للمحافظة على الوقف، والتقدّم من الحكومة العثمانيّة للمراجعة والشّكوى من التعدّي، وبذلك تمكنّوا من صيانة الوقف مؤقّتًا، وكان ذلك في عام 1326 هجرية الموافقة 1904 ميلاديّة".

وقد ذكر هذا التّعيين في كتاب "الوصيّة والميراث عند الموحّدين الدروز" الصّادر عام 1983 لمؤلّفيه الشّيخ القاضي مرسل نصر والشيخ حليم تقي الدين، حيث كُتب: "أوّل قاضي مذهب في ولاية بيروت هو الشّيخ محمد علي روضة المولود سنة 1851 والمتوفّى سنة 1941. وهذا نصّ الصّكّ في توليته القضاء من رئيس مذهب الدّروز في ولاية بيروت الشّيخ طريف طريف:

"لجانب الماجد الشّيخ محمّد أفندي روضة المحترم

بعد حمد الله والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد رسول الله، ننهي إليكم بأنّ الجمّ الغفير من إخواننا الدّروز في رأس بيروت، طلبوا منّا تعيينكم نائبًا في بيروت لرؤية المعاملات والدّعاوى المذهبيّة المتكوّنة بينهم بالنّظر لعدم وجود رئيس روحيّ لهم بذاك الظّرف. وحيث أنّ دعاوى النّكاح والوصيّة والميراث بين الدّروز، ترى وتفصل بموجب أمر مشيخة الإسلام الجليلة، المؤرّخة في 20 شباط سنة 1306 نمرة 375، وأمر ولاية بيروت الجليلة بتاريخ 21 ذي القعدة سنة 1326، وأوّل كانون الأول سنة 1324 ونمرة 468 بمعرفة المشايخ، وجد من الضّروري إجابة طلب إخواننا المذكورين. وبناءً عليه، وبالنّظر لما نعلمه من صلاحكم وتقواكم وأهليّتكم وكفايتكم، صار تعيينكم وكيلًا عنّا لرؤية الدّعاوى المذهبيّة الدّرزيّة، وإصدار الأحكام والإعلامات العادلة بخصوصها، ضمن دائرة الشّريعة الغرّاء والمذهب. وقد عرضنا كيفيّة تعيين جنابكم لأمر ولاية بيروت الجليلة، فباشروا وظيفتكم من تاريخه، بعد الاتّكال على الله تعالى على الوجه المشروع، واللّه يوفّقكم لما يحبه ويرضاه.

تحريرًا في غرّة ذي الحجّة سنة ألف وثلاثمائة وستة وعشرون هجرية، الموافق عشرة كانون أول سنة 1324"

حرّره الفقير إليه سبحانه، رئيس مذهب الدّروز في ولاية بيروت

محمّد طريف  

 

وقد ذكر في "معجم أعلام الدّروز" لمؤلّفه الأستاذ محمّد خليل الباشا، الصّادر عن الدّار التّقدميّة عام 1990 في ذكر الشّيخ محمّد بن علي روضة ما يلي:

"ولد في بيروت، وكان شيخًا تقيًّا ديّنًا يتّصف بالتّسامح وحسن الأخلاق، فعلا شأنه في قومه وبين عارفيه، وبما أنه لم يكن في بيروت رئيس روحيّ، وكان النّاس يذهبون في شؤونهم المذهبيّة إلى جبل لبنان أو بحرًا إلى فلسطين، فإن والي بيروت سمح للشّيخ محمد طريف سنة 1909 بأن ينظر في أحوالهم الشّخصيّة على طريقتهم التّقليديّة، دون السّماح لهم بإقامة محاكم مذهبيّة درزية. والشّيخ محمّد طريف كلّف الشيخ محمّد روضة أن يتولّى الأحكام في عشيرته، عندما يتعذّر الوصول إلى المحاكم المذهبيّة في جبل لبنان، فقام بهذه المهمة خير قيام، وكان أخًا وأبًا وصديقًا ومرشدًا للجميع."

وجاء أيضًا في كتاب "دروز بيروت، تاريخهم ومآسيهم‎" لمؤلّفه الدّكتور سليم حسن هثي، الصّادر عن دار لحد خاطر عام 1985 ما يلي:

".. لقد كنّا دائمًا وأبدًا منذ القدم مرتبطين شرعيًّا بدائرة الإفتاء في بيروت، وبعد فصل بيروت عن الجبل، أضحت الطّائفة تابعةً لعكّا، وقام شيخ عقل الدّروز الطيّب الذّكر محمّد طريف، بتكليف الشيّخ محمد أفندي روضة لرؤية وفصل المعاملات والدّعاوى المذهبيّة المتكوّنة بينهم، بالنّظر لعدم وجود رئيس لهم بذلك الظرف".

أمّا في فترة الانتداب البريطانّي، فقد أبت سلطات الانتداب بالاعتراف بالدّروز كطائفة مستقلّة، ولم تمنحهم صلاحيةً لإقامة محاكم دينيّة خاصّة بهم. إلى جانب ذلك، فقد عملت السّلطات على تقليص صلاحيّة قاضي الدّروز، وأمرت بحصرها الأحوال الشخصيّة فقط. في عام 1922 وضعت حكومة الانتداب دستورًا فلسطين، اعترفت من خلاله اعترفت بالمحاكم الدينيّة القائمة آنذاك، دون أنّ تضمّ الطّائفة الدّرزيّة إلى قائمة الطّوائف المعترف بها رسميًّا. وقد كان الدّروز في سنوات الانتداب الأولى قد توجّهوا إلى الإدارة العسكرّية، وطلبوا منها اعترافًا باستقلالهم الطّائفيّ، وتثبيت تعيين الشّيخ طريف طريف قاضيًا للدّروز، مثلما كان في العهد العثمانيّ. ردًّا على هذا التّوجّه، استلم الشّيخ طريف في تاريخ 7 تمّوز 1919 رسالةً، بعثها له الحاكم العسكريّ في حيفا السيّد "ستانتون"، وقد جاء فيها:

"إلى حضرة قاضي مذهب الدّروز الشّيخ طريف الجزيل الاحترام في جولس

بعد السّلام: لقد أفادني جناب القاضي القضائيّ في القدس الشّريف، أنّنا نصادق على الإذن الصّادر لكم من قبل الحكومة العثمانيّة، بتسوية مسائل النّكاح على مقتضى شريعتكم. أمّا في الشؤون الإرثيّة، فصلاحيّتكم لحلّ المسائل سارية حيث يرضى بها الخصمان، على ما هو مبيّن في مذكّرة متصرّف عكّا الأسبق الّتي بيدكم. وحيث لا يرضى الخصمان، فالمرجع المحكمة الشّرعيّة والسّلام."

حيفا 7 تموز 1919

الحاكم العسكريّ

 

في أعقاب هذه الرّسالة، قدّم الشّيخ طريف التماسًا إلى رئاسة المحكمة في حيفا، كتب فيه ما يلي:

"لجناب رئاسة محكمة بداية حيفا العليّة

المعروض عليّ أنّني معيّن رسميًّا بأوامر عالية، قد صادق عليها حاكم حيفا العسكريّ وعمّمها لمن يلزم لأجل اعتباري قاضيًا لطائفة الدّروز بلواء عكّا، مفوّضًا بتحرير الترّكات والوصيّات والنّكاح والطّلاق الخاصّة بتلك الطّائفة، فبناء عليه أسترحم صدور أمركم لحكّام الصلح في عكّا وحيفا، ليودعوا لي أمثال هذه القضايا متى وصلتهم لأفصل بها ولآمر بأمركم في كلّ حال."

الدّاعي محمّد طريف

قاضي طائفة عموم الدّروز بلواء عكّا

 

وقد أجاب رئيس المحكمة في حيفا بتاريخ 11 تشرين أول 1919 في رسالةٍ بعثها للشّيخ طريف طريف، يخبره أنّ السّلطات المختصّة أوعزت لقاضي الصّلح وللقضاة الشّرعيّين في حيفا وعكّا، الأخذ بعين الاعتبار السّماح الّذي منح للدّروز بمعالجة أحوالهم الشّخصيّة حسب قوانينهم. أمّا وفيما يتعلّق بقضايا الوصيّة والميراث، يبقى القرار ساريًا في تحويل الطّرفين إن لم يوافق كلاهما على الاستحكام وفقًا للحكم الدّينيّ الدّرزيّ، إلى المحكمة الشّرعيّة. وقد استمرّ الشّيخ طريف قاضيًا حتّى يوم وفاته، ليتمّ من بعده تعيين ابنه الشّيخ سلمان طريف خلفًا له في منصب القضاء، بموجب رسالة من حاكم لواء حيفا أطلقت في السّادس عشر من شهر كانون الثّاني عام 1929.

أمّا فيما يتعلّق بشؤون الأوقاف، فقد تابع الشّيخ طريق نهج أخيه الشّيخ مهنّا الّذي قام بترميم مقام النّبي شعيب عليه السّلام، فقام الشّيخ طريف من بعده بإضافة جناح جديد في أرض المقام. بالإضافة إلى قيامه بترميم وتوسيع مقام سيّدنا النّبي الخضر عليه السّلام في كفرياسيف، وتجهيزه لاستقبال المصليّن والزائرين وإيفاء النّذور، واضعًا ترتيبات مناسبة للزّيارة المبيت داخل المقام، ومشيّدًا القناطر الّتي تزال موجودة في المقام حتّى يومنا هذا.

وقد شهدت فترة الشّيخ طريف قلاقل تاريخيّة جسيمة، في حين شاركت الدّولة العثمانيّة عام 1914 في الحرب العالميّة الأولى، مما اضطرّها إلى تجنيد كافّة الّشباب في مناطق حكمها، وتخصيص كافّة الموارد للحرب وسط تضييق الخناق على السّكّان، محاولةً الضّغط على الرّئاسة الرّوحيّة لفرض الضّرائب على النّاس، وتجنيد أبنائهم من الشّباب، وهو ما رفضه الشّيخ طريف رفضًا باتًّا، محافظًا بحنكته على التّوازن الدّقيق بين مصالح الطّائفة من جهة، ومصالح الدّولة من جهة أخرى.

في عام 1925، وعلى إثر تهجير وتدمير قرى درزيّة كثيرة في الجبل بعد اندلاع الثّورة السّوريّة الكبرى، بقيادة عطوفة الزّعيم سلطان باشا الأطرش، أمر الشّيخ طريف بفتح الأبواب أمام كلّ عائلة قدمت من جبل الدّروز، هضبة الجولان، وجنوبي لبنان، وقام بتأمين مأوى لهم في قرى الجليل والكرمل.

 

ناهيك عن فضل الشّيخ طريف وحكمته، فقد عُرف بين النّاس بمحبّته لجميع الطّوائف، حيث ربطته علاقة صداقة مع رئيس الطّائفة البهائيّة في عكّا الّذي كان وقتها ممثّلًا عن الامبراطوريّة الفارسيّة في البلاد، ممّا جعل فضيلة الشّيخ طريف يحصل على اعتراف من الامبراطوريّة الفارسيّة كممثّل ثانٍ لها، وذلك بسبب عطفه وحمايته للطّائفة البهائيّة في البلاد. كذلك، فقد وصل اهتمام فضيلته إلى دروز جنوبي أمريكا، حيث قام بإرسال نجله البكر الشّيخ سلمان إلى الأرجنتين، لتفقّد أحوال الجاليات الدّرزيةّ هناك، ومدّ يد المساعدة لهم في الشّؤون الدّينيّة الرّوحيّة.   

بعد سلسلةٍ كبيرةٍ من الأعمال والإنجازات، توفي فضيلة الشّيخ طريف عام 1928 ليخلفه من بعده في منصب الرّئاسة الرّوحيّة نجله الأصغر الأنور سيّدنا الشّيخ أبو يوسف أمين طريف، وفي منصبه كقاضٍ شرعيّ ابنه البكر الشّيخ أبو كامل سلمان طريف.

في مقال نشر على صفحات مجلّة "العمامة" تطرّق المرحوم الشّيخ أبو محمّد حسين عزّام حلبي من دالية الكرمل، إلى العلاقة الّتي سادت بين والده وبين المرحوم الشّيخ طريف. وقد ذكر الشّيخ أبو محمّد أنّه كان في الثّانية عشرة من عمره، يوم وصل في عام 1928 خيّال من جولس، وأبلغ سكّان القرية بنبأ وفاة الشّيخ طريف وبأنّ مراسم الجنازة ستجري في اليوم التّالي. وأضاف الشّيخ أبو محمّد في المقابلة شارحًا أنّه كان من جمله المشايخ الّذين انطلقوا على ظهر خيولهم في منتصف اللّيل، ليصلوا بعد مدّة ستّ ساعات إلى جولس مع إشراقة الصباح، حيث تفاجأ أهالي جولس بكون أهالي دالية الكرمل البعيدة قد وصلوا قبل أهالي القرى المجاورة. وقد تجمّعت وفود كبيرة ضمّت رجال دين من كل القرى الدّرزيّة في المناطق القريبة، ومن قرى جنوب لبنان، وهضبة الجولان منطقة دمشق، بالإضافة إلى أعيان ووجهاء قدموا ممثّلين عن الطّوائف الأخرى.