فضيلة سيدنا الشيخ أبو يوسف أمين طريف

شارك المقالة:
Share on facebook
Share on whatsapp
Share on twitter
Share on email

تولّيه لمسؤوليّة الرّئاسة الرّوحيّة

الرّئاسة الرّوحيّة هي امتداد لفكرة الإمامة الرّوحيّة، والّتي تعني إيجاد سلطة دينيّة واعية، قادرة على تقويم كلّ اعوجاج، متّبعة سبيل العقل والحكمة من أجل رعاية المصالح الشّرعيّة، الرّوحيّة، الدّينيّة والاجتماعيّة لأبناء الطّائفة، وتمثيلهم في المحافل والمناسبات الرّسميّة وأمام أصحاب المناصب والمسؤولين.

من يقرأ في تاريخ الطّائفة وامتدادها التّاريخيّ العقائديّ، يفهم أنّ الطّائفة لم تخلُ منذ بداياتها من زعامةٍ دينيّة روحيّة، كانت على مرّ العصور نقطة البيكار الّتي تجمّع الدّروز حولها، واستحكموا برأيها في تدبير كلّ شؤون الحياة.

وقد منّ الله تعالى على الطّائفة الدّرزيّة في بلادنا، بأن أودع شؤونها بين يديّ شخصيّة مثل سيّدنا الشّيخ أمين، الّذي برز بفطنته وحكمته، وساد بتقواه وزهده، مطبّقًا شروحات السّيّد الأمير قدّس الله سرّه بحذافيرها، محاسبًا نفسه في صغائر الأمور، وصارفًا جلّ طاقاته وأملاكه في خدمة الطّائفة وأبنائها طمعًا في رضى الله تعالى، وذلك من خلال تبوّئه منصبَي الرّئيس الرّوحيّ للطّائفة الدّرزية، ورئيس محكمة الاستئناف الدّينيّة المذهبيّة.

في عام 1928 وفي أعقاب وفاة والد سيّدنا الشّيخ، الرّئيس الرّوحيّ آنذاك المرحوم الشّيخ طريف محمّد طريف، الّذي حمل أعباء الزّعامة الدّينيّة والدّنيويّة للطائفة أكثر من أربعين عامًا، بدأت المداولات والمشاورات بين مشايخ الطّائفة ووجائها، بحثًا عن خلفٍ يقوم مقام المرحوم. وقد أجمع الجميع دون تردّد على اختيار سيّدنا الشّيخ أمين قائدًا، راعيًا ومرشدًا رئيساً لهذه الطّائفة الكريمة من بعد أبيه. ذلك، على الرّغم من كونه أصغر إخوته، واختياره لطريق الزّهد والتّقوى بعيدًا عن المسؤوليّات والأضواء.

لم يخلُ طريق هذا الوليّ الكريم من عقبات ومشقّات، إذ حاول بعض المغرضين دبّ الخلاف وسوء التفاهم بين أفراد عائلة طريف، محاولين زعزعة قرارهم بتوكيل الرّئاسة إلى سيّدنا الشّيخ، ولكنّ هذه القلّة اصطدمت برجال أوفياء عرفوا قيمة سيّدنا الشّيخ وأعلنوا بأنّهم لا يقبلون لأنفسهم بديلًا لفضيلة سيّدنا الشّيخ أمين.

بعد أن اتّخذ القرار بالإجماع، تمّ تبليغ سيادته بهذا التّكليف من قبل وجهاء عائلة طريف، فرفضه سيّدنا الشّيخ أشدّ الرّفض لأكثر من مرّة، معلّلًا رفضه القاطع بنيّته في العزوف عن الدّنيا، ورغبته في تكريس نفسه وماله وعمله لخدمة أهل الدّين والعبادة، مقتديًا بسلك المرحوم سيّدنا الشّيخ علي الفارس رضي الله عنه. على الرّغم من هذا الرّفض، استمرّت المحاولات والضّغوطات على سيادته من أجل قبول التّكليف، حتّى أثمرت بعد جهدٍ طويل تمّ من خلاله إقناع سيادته على الموافقة وقبول المنصب، وذلك في تاريخ 21 آذار من عام 1928.

وقد وضع سيادته قبل القبول شرطًا، بإعفائه من مهمّة المأذونيّة ومعالجة الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة، معلّلاً ذلك بنيّته في تكريس سنوات خدمته للطّائفة في الخدمات الدّينيّة البحتة، وإرشاد أبناء الطّائفة وتعريفهم على الحلال والحرام، وتطبيق شروحات سيّدنا الأمير قدّس الله سرّة بشكلٍ حرفيّ.

بناءً على ذلك، وضع سيادته برنامجًا إرشاديًّا قياديًّا سعى من خلاله إلى تثبيت مكانة الطّائفة في البلاد. في مطلع هذا البرنامج، قام سيادته برفقة كوكبة من أعلام الدين في البلاد آنذاك بجولات ضمّت جميع القرى الدّرزيّة، هدفوا من خلالها إلى اتّباع الوعظ والإرشاد وتنشيط حركة الدّين بين أبناء الطّائفة في القرى المختلفة، حتّى أُطلق عليهم آنذاك اسم "أسطول الحق" أو "فريق الهدى"، وذلك لكون جميعهم من حافظي كتاب الله ومن تلاميذ البيّاضة الشّريفة. وقد صارت مع الوقت هذه الجولات عادةً ونهجًا سنويًّا، حيث كان أبناء الطّائفة ينتظرون قدوم سيادته معتبرين زيارته يومَ عيدٍ، موكلين إلى وفده حلّ جميع المشاكل الّتي كانت تواجه الأفراد أو الطّائفة ككلّ في جميع مناحي الحياة.

لم يخرج سيادته يومًا عن تعليمات السّيّد الأمير الّتي تربّى عليها في البيّاضة الشّريفة، إذ وضع خطّة قيادته بما يلائم شروحات السّيّد وتعاليمه، عاملًا على تحقيق تغييرات كثيرةٍ متفاوتة في الحياة الدّينيّة والاجتماعيّة، مقوّمًا مناهج العبادة والصّلاة، ومقوّمة أنواعًا منكرةً من السّلوك الّذي كان سائدًا في تلك الفترة، جرّاء تفشّي الجهل وانعدام أغلبيّة النّاس للقدرة على القراءة والكتابة، والاطّلاع على كتب الدّين والشّروحات والتّراث.

وقد كانت الثّمرة الأولى لمجهود سيادته هي قراره الجريء في منع الأفراح والمخالفات في الأعراس، الّتي انقطعت بشكلٍ كلّيّ بعد تسلّمه الرّئاسة الرّوحيّة. ذلك بعد أن عبّر سيادته عن امتعاضه منها في أكثر من مجلس ومناسبة قائلًا أنّها "تهزّ بدنه"، وذلك لما لاحظ فيها من اختلاط محرّم بين النّساء والّرجال، وغيرها من المنكرات الّتي كانت سائدةً وقتها. بناءً على ذلك، فصل سيادته بين ما أسماه بعرس الفرح المحرّم الّذي يعاقب مشاركوه بالحرمان الدّينيّ الشّرعي، وبين "التأهيل" الّذي مُنع فيه الرّقص والغناء ومظاهر الزّيف، وبورك من قبل سيادته ومن قبل مشايخ البلاد.

وقد سُئل سيادته يومًا من قبل بعض الأشخاص عن سبب تحريمه للفرح والموسيقا، على الرّغم ممّا هو متوارث عن قدوم الأنبياء يوم القيامة وسط أصوات الموسيقا والطّبول، فكان جوابه رضي الله عنه: "لا يحلّ للبشر ما يحلّ للأنبياء، ‏فقدموهم سلام الله عليهم بمواكب تعلوها الموسيقا يكون بإذن من الله تعالى عزّ وجلّ، وهذا الإذن لم يعطَ لنا. وهل نحن في درجة الأنبياء كي نطلب نفس حقوقهم؟".  

هكذا كان سيادته يقابل من أراد مناقشته أو حتّى معارضته، حيث اعتاد أن يناقشهم بالصّبر والحلم، عارضًا عليهم البراهين والإقناعات ما يذهلهم ويقنعهم بصواب رأيه وحكمته.

طوال سنواتٍ طويلة عديدة خلال فترة الانتداب البريطانيّ، لم تتوقّف مهمّة الإرشاد الّتي تبنّاها سيادته برفقة الشّيوخ الأعيان، حيث جاوبوا البلاد وزاروا العباد، مكتفين بالقليل والرّخيص من اللّباس والطّعام. رفضوا الولائم وحرّموا على أنفسهم أكلها، ممتنعين عن كلّ مظاهر التّكليف والدّنيويّة، عملًا بنهج الأنبياء الأصفياء والزّهّاد الواصلين.

مع اقتراب نهاية عهد الانتداب البريطانيّ، قرّر أعضاء الوفد المبارك توسيع وترميم دار سيادته، منجزين هذا العمل الشّاق بأيديهم، حيث قاموا ببناء مضافة واسعة، إلى جانب غرفتين وأدراجٍ ممتدّة نحو السّطح. وقد قابل سيّدنا الشّيخ هذه المبادرة بقلبٍ محزون، معتقدًا في نفسه أنّه يحمّل إخوانه من رجال الدّين ما يفوق طاقتهم، على الرّغم من إيضاحهم له في كلّ مناسبة أنّهم لا ينبون هذا البيت من أجله فقط، وإنّما من أجل الطّائفة الدّرزيّة وأبنائها، الّذين لا زالوا يزورون هذا البيت العامر طيلة أيّام السّنة، حتّى يومنا هذا.

ولـمّا كانت الامتحانات والمصائب نعمًا للقريبين من الله، فقد واجه سيادته في مطلع طريقه عداوات ومحنًا كثيرة، كان أقساها محاولات عزله عن منصبه الرّوحيّ في بداية تولّيه له. وقد برز من بين المساندين لسيادته، والواقفين إلى جانبه بالمساعدة والدّفاع والنّصرة، سيّدنا الشّيخ المرحوم أبو حسين فندي شجاع، الّذي وقف في وجه ما حاول المغرضين إيصاله إلى آذان مشايخ البيّاضة، من إشاعات مغرضة وباطلة أُطلقت لتشويه سمعة سيادته.

في هذا الباب، تذكر القصّة أنّ رسولًا واشيًا من أهل الدّين، نجح في الوصول إلى شيوخ البيّاضة ناقلًا لهم أحاديث الزّور، وإقناعهم بتصديق ما جاء به من أكاذيب، حتّى قام بعضُ مشايخ البيّاضة بكتابة رسالة ضدّ سيّدنا الشّيخ أمين، وسط حضور المرحوم سيّدنا الشّيخ أبي حسين محمود فرج الذي لم يطمئنّ للأخبار المنقولة، ولكنّه آثر الصّمت والتّأنّي كما جرت عادته في الصّدق وحُسن المعاملة. ولكنه من أدبه في هذه الأثناء، قام أحد الأتقياء إلى خلوة المرحوم الشّيخ حسين فندي شجاع، وأخبره بالرّسالة الّتي بدأ الشّيوخ بتدوينها من أجل إلقاء الحرم على سيّدنا الشّيخ أمين وعزله من منصبه، انتفض المرحوم الشّيخ حسين وركض مسرعًا إلى مكان الاجتماع، واضعًا يديه الكريمتين على الباب ومعاتبًا إيّاهم بقوله: "حضرتك يا شيخ، تريد أن تكسر كرامة الطّائفة من الدّالية إلى حرفيش إكرامًا لخاطر (اسم الواشي) الأفندي. هذا بصرش، بصرش، بصرش!" (أي لا يليق). بعد ذلك، مضى الشّيخ حسين إلى غرفة ابنه الشّيخ المرحوم أبي فندي جمال الدّين شجاع، موكلًا إليه مهمّة كتابة منشور يليق بدعم المرحوم سيّدنا الشيخ أمين. فما كان من الشّيخ أبو فندي إلّا أنّه كتب الرّسالة بخطّه الجميل الوقور، ليتراجع بعدها مشايخ البيّاضة الآخرون ويضعوا توقيعاتهم إلى جانب توقيع الشّيخ حسين شجاع، معترفين بوقوعهم في فخّ الحيلة الّتي جاء بها الرّسول. في أعقاب ذلك وبتوفيق من الله تعالى ونصرته للحقّ والعدل، وصلت الرّسالة إلى بلادنا حاملةً لتوقيع أسياد الطّائفة في سوريا ولبنان، منهيةً بذلك معارضة المغرضين الّذين ترصّدوا لسيّدنا الشّيخ أمين، ووقفوا بحسدهم ضدّ شخصه الكريم، على الرّغم أنّه كان رضي الله عنهم يقابلهم طوال حياته بكلّ ثبات وإيمان، وصبر واحتساب لوجه الله، وهو ما زاد اليقين بطيب عنصره الطّاهر، وقربه من الله الّذي لا يبتلي من عباده إلّا الصّالحين المتّقين، ليزيدهم إليه قربًا، وبين النّاس ارتقاءً وعلوًّا.