فضيلة سيدنا الشيخ أبو يوسف أمين طريف

شارك المقالة:
Share on facebook
Share on whatsapp
Share on twitter
Share on email

فضيلة الشيخ مهنا محمد طريف – الرئيس الرابع

هو الرئيس الروحي الرابع للطائفة الدرزية من عائلة طريف وقد تسلم الرئاسة إثر وفاة والده المرحوم فضيلة الشيخ محمد طريف عام 1864 وظل في منصبه حتى وفاته عام 1889 وقام بإنجازات كبيرة ودعي "السيد".
وقد نشر عن الشيخ مهنا طريف السيد في مجلة "العمامة" مقال بقلم الشيخ وسيم طريف جاء فيه: "ولد المرحوم الشيخ مهنا طريف عام 1849م لوالدين ورعين تقيين في قرية جولس وتربى منذ بدايته التربية الصالحة الحسنة الدينية المقترنة بالآداب التوحيدية. نشأ وشب على تحصيل العلم الشريف والدرس والحفظ ملتحفاً بتقوى الله متسماً بحسن الخلق والحلم والتواضع.
تربى مع أخوية المرحومين الشيخ طريف محمد طريف والد المرحوم سيدنا الشيخ أبو يوسف أمين طريف (ر) والشيخ احمد محمد طريف والد المرحوم الشيخ علي حمادة طريف على هذه الفضائل التوحيدية السامية وتمسكوا كلهم بهذه الصفات الحميدة الباقية.
كان الشيخ مهنا كبير إخوته وعندما بلغ سن الخامسة عشر من عمره توفي والده المرحوم الشيخ محمد طريف وعند تشييع الجنازة وبعد الصلاة عليها تم تعيين الشيخ مهنا طريف من قبل مشايخ الدين رئيساً روحياً خلفاً لوالده لما لقوه واستحسنوه من ديانته وتقواه وسمته القويم ولهذا لقب بالسِيِّد.
في ذلك الوقت وبعد مرور السنين لوحظ أن مقام سيدنا النبي شعيب (ع) صغير وضيق ولم يكن به مأوى للزائرين ومع تزايد الإقبال عليه دعت الحاجة الملحة إلى تعمير وتوسيع البناء فما كان من المرحوم الشيخ مهنا طريف إلا أن جمع مشايخ الدين ومن بينهم المرحوم سيدنا الشيخ خليل طافش من كفر سميع والمرحوم الشيخ أبو قاسم محمد فرهود من الرامة والمرحوم الشيخ سليمان حمود من يركا وشاورهم بالأمر فأجمع الرأي على أن ذلك المشروع الضخم في مفاهيم ذلك الزمان ولا يستطيع أبناء الطائفة الدرزية في بلادنا لوحدهم تحمل أعبائه فالأمر يوجب جمع التبرعات والدعم المعنوي من الطائفة في لبنان وسوريا أيضاً, ولهذا أرسل المشايخ المذكورين مع كتاب توصية من قبل الشيخ مهنا وكانت بداية رحلتهم من الجنوب اللبناني من ثم إلى الشوف وبعدها إلى جبل الدروز في سوريا حيث تم جمع التبرعات الكافية للبدء بهذا المشروع المقدس. في هذا المشروع الضخم عمل العشرات بل المئات, لقد قم إحضار بنّائين. على مستوى رفيع يساعدهم اعمال من أبناء الطائفة في بلادنا.
ومما يروى من الخلف عن السلف انه في بداية العمل كان لا بد من حفر الأساسات للبناء وللعقود التي ستضاف للعقدين الذين أقيما في زمن صلاح الدين الأيوبي. في إحدى هذه الحفر وصل العمال إلى عمق ما يقارب الخمسة عشر متراً مما سبب لهم الخوف والقلق من الاستمرار بالعمل. كان ذلك بحضور الشيخ مهنا طريف الذي ما كان منه بعد التوكل على اللّه وتسليم أموره إلى مولاه إلا أن شمر عن ساعديه وربط خصره بالحبل وأمر العمّال بإنزاله للحفرة العميقة فاستكمل العمل لوحده إلى أن وصل إلى القاعدة الصخرية مما شجع العمال وشد عزيمتهم وقوى معنوياتهم, هذا ولم يمر إلا أيام قلائل على تأهيله فلا عجب فالسيد الجليل (ص) تُبذل الروح في سبيله. ومما يذكر أن فوق الضريح تأتي دعامة العقد وقد فكر كبير البنائين آنذاك ويقال له البقعوني في هذه الفكرة فقال له الشيخ مهنا كل عملنا وشغلنا من اجل هذا الضريح المبارك الشريف فأبني فوقه قنطرة تكون داعمة للعقد وهكذا أصبحت الحجرة جميلة بهذا المنظر اللطيف.
إن تخطيط إقامة العقود كان تخطيطاً سليماً تعلوهم قبة كبيرة مباركة. لقد دام العمل في تعمير المقام الشريف عشر سنوات قضى الشيخ مهنا معظمها هناك إلى أن أصبح المقام آيةٌ للناظرين.
ومما يذكرانه عند العمل بجانب الضريح المقدس الزاهر الذي يحتوي بداخله جثمانه الزكي الطاهر كان لا بد من إزالة بعض الحجارة هناك لتهيئة ذلك للبناء المرتب وأثناء العمل سقط حجر صغير فانبثق النور من داخل الضريح الشريف كالنور الوضاح لشعاع الشمس اللطيف فصلى الله على عن لا نبي بعده فهو حتماً آتٍ وعدةُ لا يحيف.
"عندما اشرف البناء على الانتهاء في نهاية عام 1884م اجتمع أعيان البلاد للتشاور حول موعد التدشين فاستقر الرأي على أن يكون في تاريخ 25 نيسان 1885م وهكذا تم في التاريخ المذكور تدشين البناء بحضور عدد كبير من أبناء الطائفة الدرزية من سوريا ولبنان وبلادنا وهناك عُيّن الخامس والعشرين من نيسان في كل عام زيارة رسمية للمقام الشريف(ص) يجتمع فيها مشايخ الدين من بناء التوحيد لرؤية بعضهم بعض ولتلاوة الصلوات المقدسة والأشعار الروحانية والمواعظ الجوهرية.
وفي كل سنة كان الشيخ مهنا طريف يصحب معه بعض المشايخ ويتوجه في الوقت المعين لاستقبال الزائرين بالتأهيل والترحاب غارساً في قلوبهم شجر التقوى باثاً فهم روح الارتياح لعمل الخير, ولم يقف عند هذا الحد فقط بل شرع مؤخراً بإنشاء رسالة لأبناء طائفته بجمع مبلغ من المال لعمار مَقام سيدنا الخضر (ع) إلا انه لم يُفسح في اجله فبعد أربع سنوات من تدشين مقام سيدنا شعيب (ع) وفي عام 1889م قضت الحكمة الربانية على وفاة المرحوم الشيخ مهنا طريف مُخلفاً وراءه ولدين وها سليمان وعمره خمس سنوات وسعيد وهو في مهد الرضاعه, وقتئذٍ استأثرته المنية غض الشباب غير متجاوز سن الأربعين, فهرع الناس على اختلاف الطوائف لحضور مأتمه العظيم فأجتمع هد ينوف عن ألفين وخمسمائة نسمة وكان لاجتماع ذلك الحشد منظر يذيب الأكباد ويحرك الجماد, فانتقل إلى جوار باريه قريراً مطمئناً برضى ربه ورضى أهل التوحيد ودفن في قبة سيدنا الشيخ علي فارس (ر) بجانب ضريحه الشريف. والحق يُقال انه عاش ومات سالكا طريق الخير والطاعة تغمده الله برحمته وافرغ عليه سجال نعمته وإحسانه رحمه اللّه. وهذه من بعض مراثيه:

الحمد لله الحاكم العدل الورى 

بفادحةٍ قد أخمدت نار القِرا

بزوال ذا الندب الفريد بعصره

عالي المقام بعلمه أسد الشِرا

يُكنا مهنا قد تهنَّا فوزُهُ

بحر العلوم سامي المقام معطرا

شيخ الشيوخ ابن الكرام ممجدٌ

بدرٌ أضاء فوق الأنام مُنوِّرا

فيالها من نكبةٍ حلت بنا

بأفول ذا الشخص الفريد الأطهر

بشرا للحد قد اظم لهيكلٍ

بيت الشجون لقد تنضّد جوهرا

بزائرٍ قد زاره ثاوٍ به

سِفر العلوم بصدره قد سُطِّرا

طوبا له بشرا له يا سعده

قد حل في غُرَف الجِنان مُقررا

فوزاً له شاد الكمال بهمةٍ

قصراً مشيداً مانعاً قد عمرا

قد خاننا الدهر الخؤون بفيلقٍ

حبرٌ فهيمٌ فائقٌ متمهِّرا

كهفٌ حريرٌ مائعٌ متدرع

بملابس التقوى وصدق العنصرَ

شيخٌ تقيٌ زاهدٌ متورعٌ

طِنٌ نبيهٌ زكيٌ متنورا

عَلَمٌ عليمٌ سادقاً في حدسه

بحرٌ عميمٌ موجهُ قد هدّرا

سيف رهيفٌ ماضيٌ في حدهِ

نِعمَ الحسام وللحقائق أشهرا

طودٌ وطيدٌ راسياً في أرضه

رهطٌ جليلٌ نورهُ قد أزهرا

ندبٌ همامٌ ماجدٌ ومكر مٌصدر

المحافل كالليوث مزمجرا

قُطبٌ اصيل باذحٌ في مجدهِ

سامي سنياً قد يفوق القيصر

بدرٌ تجلى في الحنادس ظلمة

زاح الضلال بوعظه قد كفّرا

قَنِتٌ لبيبٌ كاهنٌ في علمهِ أربٌ

فخيمٌ جلَّ من قد صوّرا

بِرٌ نصِيحٌ فاتياً في فهمهِ

وبأمر الله مهللاً ومكبرا

قد حلَّ بالفردوس في دار الهنا

بمثلها في الكون قل ما قد يُرى

قصراً مشيداً لبنهِ من عسجدٍ

أيضاً لُجينٍ من معادن جوهرا

حُلّةٍ شريفةٍ حازها من سُندسٍ

مشحونةٍ بروائحٍ من عنبرا

تاجاً شريفاً قد تكلل رأسهُ

ابيض سطيعاً مثلهُ لم يُنظرا

عمراً محكم دائماً في مائةٍ

أيضاً وعشرون حقيقاً لامرا

مع خلقةٍ قد صاغها جلّ الذي

أبدع وعزَّ من قد صورا

حُسناً كيوسفٍ لا سبيل لوصفه

صوتاً داوودياً جميلاً افخرا

فانه يردف روحه برحمةٍ

نال الكرامة من إمامٍ اكبرا

ويرحم ناظمٍ مع كاتبٍ أو سامعٍ

ويُنيلنا ما ناله في المحشرا

من مرثية الشيخ سلمان بدر:
فهذه على سبيل البعد والفراق بارزة عن قلبٍ شجيٍّ ذات لوعةٍ واشتياق بها رثا المرحوم المغفور له الشيخ مهنا طريف المنتقل بالوفاة إلى رحمة الملك اللطيف, الذي فقده أعظم مصاب الذي طيَّش العقول والألباب وبكت عليه دموعاً الشيوخ والشباب حيث قال:

أبكي على أمرٍ مهول لقد جرى

منه النوح والبكا والله تولدا

بفقد شيخٍ ذي وقار وهيبةٍ

أديبٌ نجيبٌ كريم الأخلاق امجدا

تلك الديار جمعاً والأصقاع بلقعت

وأضحى غراب البين بصوته ينشدا

الا يا لحد أتاك الحبيب زائراً

راغب يقطن بك على طول المدى

طوباك يا قبر ولك البشرى والهنا

فأنت يا قبر سعيد لا شك تُحسدا

فرضاً لازماً نزورك كل جمعةٍ

ونلثمك يا ضريح كل وقتٍ تعمُّدا

لأنك ثويت شيخ البلاد ورئيسها

عريق الأصل عالي الفروع موطداً

فوا لهفاه على شيخٍ فريد عصره

أبكي علية بحرقةٍ ولوعةٍ وتنهدا

أنبي كلَّ غرٍّ جهولٍ عن اسمه

مهنا يدعى بين الورى سيدا

بكت عليك الإخوان يا شيخ ادمعاً

شبه دياميماً هاطلة وأزودا

سارت ضعون أحبتي لدار البقا

وبرحمة الإله الكريم تغمدا

فاضت ادمعي على الخدين سواكباً

كما الامطار قي كانون الأجردا

آلا يا اشقَّاه الباكيان عليه حرقةٍ

تُدعيان بالأسماء يا شيوخاً طريفاً وأحمدا

أضرع للإله تورثان عمره

ويطرف عنكما أعين الحسَّدا

وتنهلوا كؤوس البقا من بعده

وترزقوا الحياة وكذا أنجاله السعدا

مقام نبيٍّ شعيبٍ ‏ أتقنه بهندسةٍ

وجعله فائق بالبنا عالي مُشيَّدا

وصار هذا المقام للخلق محجةٍ

وتأتيه الورى جمعاً وتقصدا

وتطيب نفوس الزائرين بما يروا

من إتقان البنا المهندس مُؤصدا

والخلق تزره رغبةٍ بكل موسمٍ

وبغير تكلُفٍ تصدر وتوردا

وكتب الشيخ أبو صالح فرحان العريضي في مؤلفه النفيس " مناقب الأعيان", الجزء الثالث عن حياة الشيخ مهنا طريف مقالا جامعا نقتطف منه:
" ولد الشيخ الجليل لوالدين ورعين تقيين في قربة جولس التابعة لواء عكا. وبعد أن ترعرع في حجر والده وشب على اقتباس العلوم والآداب حتى بلع سن الخامسة عشر, توفي والده الشيخ محمد ابن الشيخ سليمان طريف تاركا والدته وابنة وأخين أحدهما الشيخ طريف وعمره إثنا عشر سنة وقتئذ والثاني الشيخ أحمد وعمره عشر سنوات. فلم يأل جهدا في تحصيل الآداب باكتساب حلى الورع والتقوى, ولم تأخذه في المحافظة على الدين سنه ولا نوم حتى فاق بذلك والده واسلافه لما هو عليه من قوة الحدس والذكاء. وحينها نصب شيخا بدل أبيه فشاع معطار ذكره بين أقرانه وسار مسير الشمس في الأفاق. وبعد أن بلغ من عمره إحدى وثلاثين سنة اقترن بالسيدة شهربان, كريمة الشيخ صالح افندي اليوسف فولدت له إبنة ماتت ثم ولد له ولدان وهما الشيخ سليمان والشيخ سعيد. وقصارى القول إنه كان رحمه الله شيخا أنيسا بشوشا كريما حليما زاهدا بالدنيا, غير ملتفت إلى خطامها الزائل, مهابا وقورا محبا للفقراء, منجدا للبائسين, مضيافا للغرباء, غيورا على أبناء طائفته وغيرهم, مساويا للحق بين الصغير والكبير والرفيع والوضيع, مكرسا وقته لعبادة الله وبذل الخير والإحسان وتشييد معاقل الدين وله من الأعمال المشكورة الي تذكر فتشكر بناء فقام سيدنا شعيب نبي الله الواقع في قضاء طبريا قرب قرية حطين, فإنه كان قاعا صفصفا لا مأوى به للزائرين, بناه بناء محكما. وقد جمع له من أبناء طائفته وغيرهم قيمة مائة وعشرين ألف غرش وأنفقها على عماره وعين له يوما معلوما لحضور الزائرين سنويا في الخامس والعشرين من نيسان, وفي كل سنة كان يصحبه بعض المشايخ ويتوجه بالوقت المعين لاستقبال الزائرين, غارسا في قلوبهم شجر التقوى, باثا فيهم روح الارتياح لعمل الخير, مغريا إياهم على طاعة الحكومة السنية والانقياد لأوامر الدولة العلية الأبدية الدوام. التي عاش بطلها محبوبا منها ومن مأموريها”.
وقد نشرت صحيفة "المساء" البيروتية تقريرا لمراسها في عكا السيد شبلي صيقلي عن مجريات جنازة المرحوم أبي سليمان مهنا طريف, جاء فيه:
” كان مساء الاثنين الواقع في 21 الجاري مساء ترتج من هوله الأضلاع تستك منه المسامع, حيث فيه استأثرت المنية بالمرحوم المبرور السيد النبيل, والشيخ الطاهر الجليل, شيخ مشايخ العقل والدين لطائفة الدروز بلواء عكاء الشيخ مهنا ابن الشيخ محمد طريف من أهالي قرية جولس, تخرمته المنية غض الشباب غير متجاوز سن الأربعين إثر داء عياء أعيا الأطباء ولم ينجح به دواء. على أنه لم يدم سوى أربعة أيام, فقضى عليه مخلفا في القلوب جمرات أحزان لا تطفي نارها, ولظى لوعة لا يخمد أوارها, وما طلع صباح الثلاثاء حق انتشر منعاه في سائر أنحاء اللواء, فهرع الناس على اختلاف الطوائف لحضور مأتمه العظيم, ولم يبق فرد من أفراد طائفته إلا النادر حتى شهد هول ذلك اليوم الرائع. فغصت بالوافدين باحات القرية وطرقاتها الفسيحة, واجتمع إليها ما ينوف عن ألفين وخمسمائة نسمة, وكان لاجتماع ذلك الحشد منظر يذيب الأكباد ويحرك الجماد, لما كان من شعائر الحزن وسمات الأشجان الظاهرة على أوجه الحاضرين, فكنت كيف نظرت ترى قلبا خافقا وجفنا مقروحا وفؤادا بالحزن مجروحا. ولما أزفت الساعة التاسعة (ملاحظة: أي قبل المغرب بثلاث ساعات أي الساعة الثالثة بعد الظهر) من ذلك النهار رفع نعشه إلى جانب أسلافه وأجداده الكرام, وبعد ان صلوا عليه بحضور فضيلة نائب ساحل عكا مكرملو محمد أفندي الصالح الترشيحي, واروه الثرى ذارفين على ضريحه دمعا سخينا. وحينئذ وقف كل من اخويه الشيخ طريف والشيخ أحمد مع جناب حميه الشيخ صالح افندي اليوسف ترجمان أول لدولة غيران العلية, وهرع الجميع لتعزيتهم على فقيدهم الكريم, يتقدمهم فضيلة النائب المومى اليه والكهنة والذوات ومشايخ العقل وقتئذ انتصب حضرة النائب العام مع مشايخ العقل مخاطبين الجميع ومظهرين ارتياحهم لاتخاذ الشيخ طريف شيخا لمشايخ العقل عوضا عن أخيه المتوفى نظرا لما هو عليه من التقوى والاستقامة واللياقة بهذا المنصب فوقع ذلك الرأي عندهم موقع الاستحسان راجين من الشيخ المذكور أن يكون نعم الخلف إلى خير سلف, ونظرا لما كان عليه الفقيد من طائر السمعة وما كان له من الأيادي البيضاء.".
وتضيف الصحيفة قولها:
"نذكر الآن لمحة من تاريخ حياته, سائلين الباري جل شأنه, ان يفرغ عليه شآبيب الرحمة, وعلى أهله وذويه سيول الصبر الجميل, فهو حسبنا ونعم الوكيل.
ولد هذا الشيخ الجليل سنة 1267 هجرية, من والدين ورعين ثقتين, في قرية جولس التابعة لواء عكا, وبعد ان ترعرع في حجر والده وشبّ على اقتباس العلوم والآداب, حتى بلغ السنة الخامسة عشر, توفي والده الشيخ محمد بن سليمان طريف, تاركاً له والدته وابنة وأخين, أحدهما الشيخ طريف, وله من العمر اثنا عشر سنة وقتئذٍ, وثانيهما الشيخ أحمد وعمره عشر سنوات, فلم يأل جهداً في تحصيل الآداب, باكتساب حلى الورع والتقوى, ولم تأخذه في سبيل المحافظة على الدين سنة ولا نوم, حتى فاق بذلك والده وأسلافه, لما هو عليه من قوة الحدس والذكاء, ونُصِّب حينئذٍ شيخاً بدل ابيه, فشاع معطار ذكره بين أقرانه, وسار مستنير الشمس في الآفاق. وبعد ان بلغ من عمره احدى وثلاثين سنة, اقترن بالسيدة شهربان, كريمة الشيخ صالح أفندي اليوسف, فولدت له ابنة وماتت, ثم ولد له ولدان ذكران, وهما الشيخ سليمان وعمره خمس سنوات, والشيخ سعيد وهو في مهد الرضاع الآن. وقصارى القول, انه كان رحمه الله شيخاً أنيسًا بشوشاً كريماً حليماً زاهداً بالدنيا, غير ملتفت الى حطامها الزائل, مهاباً وقوراً محباً للفقراء, منجداً للبائسين, مضيفاً للغرباء, غيوراً على أبناء طائفته وغيرهم, مساوياً بالحق بين الصغير والكبير والرفيع والوضيع> مكرّساً وقته لعبادة الله, وبذل الخير والإحسان, وتشييد معاقل الدين, وله من الأعمال المأثورة الي تذكر فتشكر, بناء مقام سيدنا نبي الله شعيب عليه السلام, الواقع في قضاء طبريا قرب حطين, فإنه بعد أن كان قاعاً صفصفاً لا مأوى به للزائرين, بناه بناء محكماً, وهو منذ عشر سنوات حتى الآن, لم يفترعَن تشييده الى ان جعله آية للناظرين, وقد جمع له من ابناء طائفته وغيرهم, قيمة مائة وعشرين الف غرش, وأنفقها على عماره, وَعَيَّنَ له يوما معلوما لحضور الزائرين سنوياً في خمسة وعشرين من نيسان, وفي كل سنة, كان يصحب معه بعض المشايخ ويتوجه بالوقت المعين لاستقبال الزائرين, بالتأهيل والترحاب, غارساً في قلوبهم شجر التقوى, باثّاً فيهم روح الارتياح لعمل الخير, مغرياً إياهم على طاعة الحكومة السنية, والانقياد لأوامر الدولة العلية الابدية الدوام التي عاش بظلها, محبوباً منها ومن جميع مأموريها, ولم يقف عند هذا الحد من عمل الخير فقط, بل كان شرع مؤخراً بإنشاء رسالة لأبناء طائفته, بجمع مبلغ من النقود, لعمار مقام سيدنا الخضر عليه السلام, إلا انه لم يفسح في أجله, والحق يقال انه كان أفضل أقرانه, عاش حميداً, ومات خير فقيد, تغمده الله برحمته ورضوانه, وأفرغ عليه سجال نعمته وإحسانه, وألهم أهله وأقربائه جميل الصبر والعزاء, ومنحهم بعده طول العمر والبقاء بمنه وكرمه."
وقد ذكر وصف شيق لإحدى الزيارات السنوية للمقام, في تقارير الصحفي والكاتب الإسكتلندي لورانس أوليفانت, الذي زار المقام مع عدد من سكان دالية الكرمل, عام 1883 وحضر مراسيم الزيارة حيث يقول:
" كنت محظوظا إذ سمح لي بالمشاركة في هذا الاحتفال, امتياز لم يحظ به غريب قبلي على ما أعلم. إن البناء الذي أقامه الدروز فوق القبة المتداعية, قد كلف حتى الآن خمسة ألاف دولار جمعت كليا من الدروز أنفسهم, ولم يكمل البناء بعد. كان المنظر مدهشا, الشيوخ الدروز وقد رغبوا في تكريم ضيفهم, اصطفوا لمقابلتي في صفين وأطلقت النار, كما أطلقوا حناجرهم بأغاني الاستقبال, وعج البناء الأبيض بالرجال والنساء في لباسهم ذي الألوان الزاهية والمنسجمة مع المناظر الرومانتيكية. إن الاحترام الذي يبدونه نحو كبير المشايخ, والعبارات الحارة التي يتحدثون بها عنه, لا يمكن إلا أن تكون صادقة, وحقا فقد بدا أنه يستحق ذلك, فعلى الرغم من أنه شاب حديث السن, في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره, إلا أنه ابن لعائلة عريقة, ومع هذا فهو يتميز بتواضع جم وعطف على الآخرين. وبينما كنا جالسين نتحدث سمعنا ضوضاء من الخارج, فنهض الجميع لاستقبال وفود جديدة من المشايخ, قدمت الى المكان, وتعالت اصوات الاستقبال, وأٌطلق الرصاص ترحيباً بالقادمين, وتكرر هذا المشهد عدة مرات. وعندما اذنت الشمس الى المغيب, جاء وقت الطعام, فتقدمت بعض النساء وعلى رؤوسهن اطباق مليئة بالأرز, فوقها قطع كبيرة من اللحم, وتجمّع حول المناسف عدد كبير من الزوار, أقدره بحوالي 400 – 300 شخص, وإطعام عدد هائل من الناس كهذا, ليس بالأمر الهين. وقد قام به الدروز بلباقة وكرم واتقان. وبعد الانتهاء من الطعام, جاء دور الأفراح والاحتفالات الشعبية, فانتظمت حلقتان من الدبكة, واحدة للنساء وواحدة للرجال. وكانت حلقات الرقص تقتصر على الشباب من بين الجمهور المتواجد, أما الشيوخ, فقد جلسوا في دوائر داخل المقام, يتداولون شؤون الساعة الدينية والسياسية. وبعد فترة من الزمن, أوعز المشايخ للمحتفلين في الخارج, بأن يكفوا عن دبكاتهم وأهازيجهم, وأن يخلدوا إلى السكينة, وبدأ جميع الشيوخ بالدخول إلى القاعة الكبيرة في المقام لأداء الصلوات. واستمرت صلوات الدروز طوال الليل. لا شك لدي, أن احتفالات الدروز في مقام البي شعيب, لا تحمل طابعا دينيا فقط, وإنما تعقد لأهداف سياسية كذلك, فالدروز متواجدون في عدة مراكز في سوريا ولبنان وفلسطين, وهم يستغلون هذه الفرص للتباحث فيما بينهم بأوضاعهم, ولمعاملة الحكومة العثمانية والسلطات الأخرى لهم. وقد قضيت في مقام البي شعيب في حطين يومين كاملين, كانا من أعذب الأيام في حياتي, شاهدت فيهما, الكثير عن الدروز, وعرفت الكثير عنهم, وأعتقد أنني أول غربي سمح له بأن يكون قريبا إليهم إلى هذا الحد.".